المهاجرون الثلاثة

TT

كيف لذلك القروي الأمّي، وقد حملته الهجرة في مغامرة مجهولة المصير، أن يعلم أنه سيكون، يوماً، أباً لولد يصنع التاريخ.

من قريته الفقيرة الرابضة على مشارف مدينة دمشق، ركب المهاجر الأمي البرّ والبحر لتنتهي به رحلة العمر إلى مدينة صغيرة من مدن الأرجنتين.

ولأنه كان أمياً وفقيراً، فقد اختار هذا القروي السوري، كسباً لمعيشته، الطواف في الأحياء الفقيرة كي يبيع ما يحمله حماره من سقط المتاع ما لا يباع إلا على الفقراء.

تزوج السيد منعم، القروي المهاجر، من أسرة سورية مهاجرة، ورزق الزوجان مولوداً أصبح رئيساً لجمهورية الأرجنتين!.

إنه كارلوس منعم، الذي استوقف التاريخ كي يصعد به إلى أعلى قمة من قمم التاريخ.

نشأ الصبي السوري، وتربى، في الأرجنتين، وتعلم، ودرس القانون، ومارس المحاماة، واشتغل بالعمل السياسي، وعيّن حاكماً لإحدى المقاطعات، وقاوم حكم العسكر، وسجن خمس سنوات، وتحققت له زعامة سياسية مذهلة، فحلّق، وتألق حتى اختاره شعب الأرجنتين للمنصب الرفيع ليكون أول مهاجر يرأس حكم البلاد!

***

والمهاجر الثاني من أصول مجرية من عائلة ميسورة الحال صودرت أملاكها، بعد أن صودرت حريتها أيضاً، ودفع بها القمع الشيوعي لأن تغادر المجر بحثاً عن وطن آخر بديل.

وصل استيفان ساركوزي والد نيكولا ساركوزي رئيس جمهورية فرنسا إلى مرسيليا عام 1949، واقترن بزميلة له تدرس القانون والدها جراح فرنسي أمه يهودية شرقية.

كان نيكولا ساركوزي ثمرة هذا الزواج (ولد في باريس في 30 أغسطس عام 1955م)، على أنه كان زواجاً قصير العمر، حيث هجر والد الطفل ساركوزي أمه وتولت هذه رعاية ابنها الصغير والسهر على تعليمه.

لم يكن هذا الصبي المجري صبياً عادياً، فقد وهبه الله من مكونات القدرة والإبداع ما جعل منه استثناء بين أقرانه. درس القانون، ومارس العمل السياسي في عمر مبكر، وأصبح عمدة لواحدة من أجمل وأهم ضواحي باريس وهو في الثامنة والعشرين من عمره. انضم للحزب الديغولي، واحتضنه جاك شيراك، وقد آنس فيه ما لم يأنسه في غيره من شباب الحزب وجيله الصاعد، إنه محدث بارع، يمسك بناصية الكلمة، يطوعها ويجعل منها وسيلته المؤثرة في نفوس مناصريه. قوي الشخصية. لم يعان من قصر قامته. مقاتل سياسي عنيد. لا تنال الانكسارات من صموده. عرف الهزيمة وتغلب على تداعياتها ليظهر من جديد أشد متانة وأصلب عوداً. واستطاع في معركته للوصول إلى رئاسة الجمهورية أن يتغلب على جميع خصومه السياسيين من حزبه، وأن يقذف بهم خارج حلبة الصراع، لينفرد في ما بعد بتمثيل أحزاب اليمين والفوز على مرشحة أحزاب اليسار ليصبح بذلك أول مهاجر رئيسا للجمهورية عرفته فرنسا.

هذه، بإيجاز، قصة الصبي المجري المهاجر الذي تخلى والده عنه وتولته أمه بالرعاية ليصبح علماً من أعلام التاريخ!.

***

والمهاجر الثالث هو حسين أوباما. ذلك الأفريقي الكيني الأسود الذي زرع في أحشاء زوجته الأميركية البيضاء، جنيناً جعلت منه إرادة الله حدثاً تاريخياً نادراً في دلالته وآثاره.

وإذا كان زواج حسين أوباما الأفريقي الأسود بزميلته الطالبة الأميركية البيضاء، ثورة على كل مفاهيم الكره العنصري، وتمردا على قوانينه، فإن اختيار ولده الأسود اليتيم رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، حدث عالمي اهتزت له أركان الدنيا طرباً وعجباً وإعجاباً.

ولن أتحدث عن مسيرة الرئيس الأميركي الجديد، ووسائل الإعلام في حديث لا ينقطع عن هذه الظاهرة الإنسانية الفريدة في حراك المجتمع وتطور الفكر الآدمي ورفضه للإرث الذي لا يتلاءم مع قوانين الحياة. على أنه لا بد من الحديث عن عصامية هذا الرئيس الشاب الأسود الذي عاش طفولته وصباه في ما يشبه الضياع بين هاواي وأندونيسيا، ومحيط كل ما فيه يناقض المحيط الآخر. حمله طموحه لأن يدرس القانون في جامعة هارفارد. وانضم لمكتب المحاماة في شيكاغو، حيث تولته بالتدريب زميلته وزوجته لاحقاً ميشيل أوباما، واختير عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية «إلينوي»، كل ذلك والعالم لا يكاد يسمع به من قبل.

وفي معركته مع هيلاري كلينتون للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، خاض صراعاً شرساً بسلاح نادر في قطعه ومضائه: الثقة بالنفس والثقة بما يدعو إليه. لم يعان من أصوله العائلية الفقيرة المتواضعة، بل رأى فيها تحدياً يواجه به كل المسلّمات الاجتماعية المريضة. وآفات التمييز العنصري، وفوقية الأبيض على الأسود، وتحققت له بذلك مساندة جماهيرية نادرة لم يألفها العمل السياسي الأميركي من قبل.

ولم يكن في عراكه مع المرشح الجمهوري أقل بأساً وأضعف سلاحاً، فقد اجتمع له من أسباب المساندة الشعبية ما عزز من ثبات قامته وقدميه حتى صنع بفوزه تاريخاً يتغنى به التاريخ.

***

هؤلاء المهاجرون الثلاثة: السوري، المجري، والكيني، اقتحموا بهجرتهم هذه أبواباً كانت تبدو لنا، نحن العرب، محكمة أقفالها إلى أن أفقنا على عالم تحكمه الدساتير وتعلو فيه المواطنة على كل اعتبار.

كان كافياً لأن يولد كارلوس منعم في الأرجنتين، وأن يولد نيكولا ساركوزي في فرنسا، وأن يولد باراك أوباما في أميركا، كي ينعموا بحقوق المواطنة التي كفلتها لهم دساتير تلك البلاد، ويندفعوا في طموحات تتجاوز الأحلام. عاشوا في ظل دساتير لا تفرق بين المعدم والثري، والأبيض والأسود، والمهاجر وابن الحسب والنسب. كانوا سواسية أمام القانون في مجتمعات أقامت حضارتها على الالتزام بحكم القانون.

ولم يستنكر الأرجنتيني أن يصبح الصبي ابن المهاجر السوري الفقير رئيساً لجمهورية بلاده، وقد جاءت مسيرته السياسية تأسيساً على كل ما منحه إياه الدستور من حقوق المواطنة وطموحاتها المشروعة. ولم يغضب الكبرياء الفرنسي، باعتزازه العتيد بتراثه الحضاري، ومباهاته التي لا تعرف الحدود بانتمائه الوطني، لم يغضب على وصول المهاجر المجري إلى أعلى مراتب الحكم واقتحامه باباً كان يحسبه الفرنسيون وقفاً عليهم.

وهنا أيضاً كان صعود المجري المهاجر أخذاً بحقوق المواطنة التي كفلها الدستور كما كفلها لكل مواطن فرنسي اصيل.

***

ولعل في حالة الرئيس باراك أوباما من الاستثناء ما يجعل منه حدثاً نادراً غير مألوف في الاقتحامات السياسية الكبرى التي بادر إليها مهاجرون عظماء مثل منعم كارلوس ونيكولا ساركوزي.

باراك أوباما مواطن أميركي منحه الدستور كل حقوق المواطنة بعد أن وُلد في هاواي لأب كيني مهاجر وامرأة أميركية بيضاء. إلا أن أصوله الأفريقية جعلت منه إنساناً مثقلاً بكل تراكمات التمييز العنصري، وكانت هذه الحقيقة كافية لأن تنحدر بعزيمته إلى حد الشعور باليأس والعدول عن غزوته السياسية الكبرى.. إلا أنه تحرر من عقدة الخوف وكان سلاحه مزيجاً من الثقة في النفس في ما يدعو إليه، وتحصيلاً جامعياً رفيعاً، وشخصية تحظى بالقبول لدى الجماهير. وبرنامج عمل يستجيب لتطلعات الناخبين.

***

نعم لقد كان كل واحد من أولئك الرؤساء الثلاثة نتاجاً إنسانياً فذاً غير عادي: بالعمل، وقوة الإرادة، والذكاء، وحُسن البصيرة، وجميع مقومات الزعامة الأخرى، إلا أن مَن دفع بهم أيضاً إلى قمم الصعود ناخبون تعلموا في مدارسهم منذ الصغر ـ كما يتعلمون اللغة والحساب ـ في مناهج التربية الوطنية معاني التسامح، وتقدير الكفاءات المتميزة، والاعتراف بحق الجميع في تكافؤ الفرص، ونبذ التعصب الوطني، والتسليم بحكم القانون للجميع، وما إلى ذلك من القيم التي جعلت من المواطن الأرجنتيني، والمواطن الفرنسي، والمواطن الأميركي، مواطناً ملتزماً بالدستور ومدافعاً عنه، وحامياً له من التجاوزات عليه.

مناهج التربية الوطنية المبكرة، إذن، هي التي صنعت تلك المجتمعات: أثرت وعيها بالقيم، كفلت لها حرية التعبير، فحصنتها ضد التطرف والعمل في الظلام، وجعلت من الولاء للوطن الضياء الذي ينير قلوب المواطنين.

ومناهج التربية الوطنية في المدرسة العربية هي، على ما يبدو، الغائب المفقود.. إلا ما رضيت عنه، وأخذت به دول لم تدرك بعد كيف تصنع مناهج التربية الوطنية المبكرة الإنسان كما صنعته في فرنسا وأميركا والأرجنتين.

* وزير سعودي سابق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية