المضمون الحقيقي لرسائل دمشق.. لبنانيا وعربيا

TT

بكلمات مهذّبة ردّ وزير الداخلية السوري اللواء بسام عبد المجيد على سؤال عن سبب بث أقوال المتهمين بتفجير دمشق الأخير تلفزيونياً.. فقال ما معناه إنه لطمأنة بال الناس إلى نجاح السلطات في كشف الفاعلين.

ولكن، ثمّة تفجيرات وإنزالات وتحويمات جويّة واغتيالات عديدة حصلت في مناطق مختلفة في سورية، لا شك أقلقت الرأي العام، منها ما وقع في دمشق بالذات.. وقد وعدت السلطات بالكشف عن ملابساتها، لكنها لم تفعل حتى الآن.

قد يكون صحيحاً أنه تحقّق تطّور ما أتاح إنجاز «اختراق» في موضوع التفجير، في حين ما زالت قضايا كاغتيال محمود قولاغاسي «أبو القعقاع» في حلب، أو عماد مغنية في دمشق فوق مستوى التقدم المسجّل في آليات التحرّي والاستقصاء.

غير أن الجانب السياسي في الموضوع هو ما يهمّ معلّق ـ ككاتب هذه السطور ـ قصير الباع في تقنيات التحرّي والاستقصاء، بل، وأزعم أنه يهمّ أيضاً الرأي العام السوري. وهو حتماً كان في بال السلطة السياسية التي ارتأت ـ مثلاً ـ أن تبثّ «الإفادات» التي تدين قوى سياسية في دولة مجاورة، أولاً، قبل اكتمال محاكمة المتهمين كما يحصل في الدول الراقية حيث يطبّق مبدأ «فصل السلطات»، وثانياً، قبل إبلاغ الجهات الرسمية اللبنانية بما توفّر لها من «معلومات» كما تتعامل الدول ذات السيادة إحداها مع الأخرى.

وبناء عليه، وإذا كان من المقدّر جداً للسلطات السورية حرصها على تبديد قلق مواطنيها، فهي في آن معاً وجهت رسالتين بليغتين إلى المجتمع الدولي ولبنان. مضمون الرسالة الأولى أن لا استقلالية حقيقية للقضاء في سورية، وهو ما يجب أن يحول دون محاكمة مَن قد تتهّمهم لجنة التحقيق الدولية باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ورفاقه.. داخل الأراضي السورية. ومضمون الثانية، بعيداً عن الكلام الدبلوماسي، أن لبنان لا وجود له كدولة مستقلة ذات سيادة في قاموس دمشق.

من راجع ملف علاقات الحكم السوري من لبنان منذ 1976، وربما منذ 1970، يدرك أن المسألة أولاً واخيراً «سياسية»، وليس الأمن سوى الجانب الرافد لها والمساعد على تطبيقها. والمعنى المقصود أن دمشق حاولت وتحاول، وفي ظل الحكم الحالي ستظل تحاول، استنساخ تجربتها الأمنية الداخلية في فرض صيغة سياسية لعلاقتها مع لبنان. وهو ما يسوّق له اليوم تحت اسم «التنسيق الأمني» بحجة التصدّي للأصولية الإسلامية (السنيّة طبعاً).

فليس سراً أن سورية دولة محكومة بالأمن. وكان الساسة السوريون الذين تعاملوا مع الملف اللبناني صادقين دائماً عندما كانوا يقولون «نريد لشعب لبنان ما نريده لشعبنا». صحيح، بدليل أنهم فوجئوا عام 2005 بأن اللبنانيين رفضوا ما رضي به مواطنوهم لأربعة عقود، مفضّلين أي حرية مجزوءة على أمن مفروض ممسوك.

قد يجادل بعض اللبنانيين بأن البعد السياسي للأزمة سابق زمنياً لـ«عبث» القيادة البعثية بالعلاقة مع لبنان، ولعله يمتد إلى 1920 عندما رُسمت حدود «لبنان الكبير». ويستشهد البعض بحالات عديدة سجلت في دمشق عبر السنين من إبداء الغضب على الساسة اللبنانيين والرغبة في تأديبهم لإساءتهم قراءة التاريخ والجغرافيا، وتوهّمهم إمكانية الخروج عن الطاعة.

هذا البعد السياسي اسمه بالعربي الفصيح «البعد القومي» الذي يرفض «واقع التجزئة» كما يرد في أدبيات ما تبقى من حزب البعث العربي. وبالتالي، فإن أي كيان لبناني مستقل، وفق هذا المنطق، حالة شاذة يجب أن تزول. بيد أن المفارقة الفظيعة للمتاجرة بـ«البعد القومي» أنه كلما ارتفعت «الشعارات القومية» انكشفت اعتبارات أخرى لا علاقة لها البتة بالهوية القومية.

فإذا كانت «العروبة» هي النبراس الذي يضيء الطريق، والمبدأ الذي يقرّر الاستراتيجية والتكتيك، يبدو التطبيق العملي أو التحالفي الذي تعتمده دمشق مخالفاً كلياً لـ«العروبة» سواء بالنسبة إلى لبنان أو العراق أو فلسطين أو اليمن، أو إزاء الأقطار العربية التي لم تُبتل بعد بفتن مذهبية وتقسيمية أدخلتها ما بات يُدعى «صراع المحاور» في الشرق الأوسط.

وإذا من المشكوك فيه حقاً أن يكون الهاجس القومي وراء اصطفافات دمشق الراهنة، بدليل تعاطف تل أبيب معها، فمن المستبعد أن تنتصر «العروبة» الحقيقية ـ أو على الأقل تسلم من الأذى ـ في حال انتصرت دمشق وحلفاؤها.

فأي قراءة متأنية في حالة التخبّط الخطير التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية، لا بد أن تلحظ ديناميكيات مقلقة، منها:

- إن أي تفاقم للوضع الاقتصادي الإقليمي ستكون له انعكاسات أمنية.

- إنه بالنظر إلى انعدام المؤسّسات الحزبية الحقيقية، حتى في الدول التي تزعم وتتوهم أن فيها أحزاباً، فإن الاحتقان معرّض في أي لحظة للتحول إلى احتقانات، ومن ثم صدامات فئوية.

- إن الابتزاز الأمني والفئوي الذي استمرأت بعض الأنظمة استخدامه عبر السنين قد يتحوّل إلى «غول» مفترس، تكون هذه الأنظمة بالذات في مقدم ضحاياه.

دمشق لعبت في لبنان، كما مع العراق، ورقة الفئوية ببراعة تسجل لها. وهي أجادت في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد التستر على غاياتها الاستراتيجية من خلال جعل نفسها «حكم ساحة» لجميع اللبنانيين، بحيث اعتبرها معظمهم مرجعية البت والرضى. غير أن القيادة الحالية وجدت نفسها ـ أو فرضت عليها موجبات تحالفاتها الإقليمية ـ مستعدة ليس فقط للتخلي عن دور «الحكم»، بل للإقدام على فتح «معارك إلغاء» طائفية ضارية.

واليوم نسمع الأبواق المحلية لدمشق في لبنان تعبّر عن مواقف فاقعة وخطيرة، لا تلامس الفتنة فحسب بل تحضّ عليها. والشيء الواضح من أدبيات هؤلاء والصحافة المحسوبة على دمشق وطهران أن دمشق تعتبر الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات العامة المقبلة في لبنان فترة «تعبئة» لإنهاك خصومها تمهيداً لإنهائهم. والجانب الأخطر أن دمشق وطهران ترصدان رقعة الشطرنج اللبنانية، وتحركات «حجارتهما»، وفي البال ما يمكن أن تفعله تل أبيب. فلكل منهما صفقتها وحساباتها مع تل أبيب، والمناخ العالمي قد لا يكون بعيداً عن الصفقات، إلا إذا هزت المعادلة انتخابات فبراير (شباط) الإسرائيلية.