عملية إنقاذ العالم!

TT

حتى الآن يبدو العالم مستعصيا على الإنقاذ، ولا تزال البورصات العالمية مستمرة في التهاوي والتراجع أو حتى السقوط؛ وفي وقت من الأوقات كان متصورا أن تخصيص الكونغرس الأمريكي لمبلغ 700 مليار دولار سوف يشيع حمى التفاؤل في الأسواق العالمية، وعندما ظهر أن ذلك لم يكن كافيا أضافت أوروبا تريليوني دولار، وتجمعت في سماء الدول الآسيوية والخليج قرابة تريليون أخرى يمكن إنفاقها لإطفاء حريق الأزمة، وحتى الصين خصصت 518 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد العالمي، ومع ذلك ظلت الأسواق آخذة في التراجع، وكأنها أصيبت بمس من شيطان أو جنون. وخلال كل ذلك كانت اجتماعات للقمة تجري بين الدول العظمى الخمس، والسبع، والثماني، وجماعات وقبائل البنك الدولي وصندوق النقد، ومعهم طابور طويل من وزراء المالية، وكبار رجال المال والصناعة؛ ولكن أيا من ذلك لم يبث ثقة في أسواق باتت وكأنها قد أصبحت مسكونة بالظنون والشكوك. وعندما تم انتخاب باراك أوباما ساد الظن وهو «المهدي المنتظر» أن الأسواق سوف تتفاءل مع وصول البشارة، ولكنها تشاءمت وتراجعت أكثر مما كانت. وليس معلوما على وجه الإطلاق عما إذا كان اجتماع الدول العشرين سوف يشكل فارقا أم لا، ولكن المرجح على ضوء الخبرة السابقة أن اجتماعا إضافيا ربما لن يكون له نتائج مختلفة عن كل الاجتماعات السابقة.

وفي بداية الأزمة قيل إنها سوف تأخذ شكل الحرف الإنجليزي V حيث تتراجع الأسواق حتى تصل إلى القاع الاقتصادي ثم ترد بعد ذلك إلى حالة من الارتفاع المستمر؛ وقدر أن يكون الوصول إلى القاع قبل منتصف العام المقبل، ثم تعود الأمور إلى مجراها قبل نهاية العام لكي تستأنف الدنيا حياتها السعيدة، وتعود الأيام الطيبة سيرتها الأولى. ولكن مثل هذا التنبؤ ما لبث أن شحب بعيدا، وعندما قابلت مجموعة من خبراء شركة «ستاندرد أند بورز» التي تقيم الاقتصادات العالمية وتعطيها درجات في السلامة الاقتصادية، كان قولهم هو إن الأزمة سوف تأخذ شكل الحرف الإنجليزي U ومعناه أن الأزمة لن تهبط إلى القاع فقط، وإنما سوف تمكث فيه بعض الوقت، وجرى تقدير الوقت فكان 18 شهرا قبل أن يظهر ضوء نهار.

ومعنى ذلك كله أن أحدا لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يجري في الأسواق العالمية، ومن الناحية النظرية البحتة فإن المنتجين للسلع والخدمات في العالم لا يزالون على حالهم، وكذلك فإن المستهلكين لا يزالون في أماكنهم، والمؤسسات من بنوك وشركات لا تزال قائمة، ولا يوجد سبب اقتصادي واحد له علاقة بالعرض والطلب وحركة الأسواق المعتادة يمكنها أن تخلق تلك الحالة المزمنة من الشك وانعدام اليقين. ولذلك ربما يكون مفيدا أن نطرح بعض التفسيرات التي لا ندعي أنها أكثر فائدة من غيرها، ولكنها مجرد اجتهاد يصدق عليه ما يصدق على كل الاجتهادات، حيث الخطأ له أجر للمحاولة، والصواب له أجران جزاء للمحاولة والصواب معا.

التفسير الأول هو أنه لا يمكن أن تنتهي أزمة عالمية بهذا العمق دون نوع من العقاب للمتسببين فيها، ولا يوجد شك لدى أحد أن هذه الأزمة العالمية سببت الكثير من المعاناة لملايين البشر، وصحيح أنه لم يحسب حتى الآن عدد الذين ماتوا فقرا من الأزمة، ولكن حجم الألم الذي أصاب وسوف يصيب البشرية من الركود الحالي والمقبل لا يوازيه ألم قدر الذي جرى في الحروب والأزمات العظمى. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى والثانية كان ضروريا أن تدفع ألمانيا الثمن بالتقسيم، وأن تضرب اليابان بالقنابل الذرية، وأن يظل كلاهما بشكل من الأشكال يدفع تعويضات متنوعة حيث توجد في كليهما قوات أمريكية، ومن الجائز أن تظل ألمانيا تدفع لليهود ثمن «الهولوكوست» حتى نهاية التاريخ. وعندما قام صدام حسين بغزو الكويت دفع هو ومعه العراق ثمنا كبيرا انتهى إلى إعدام الرجل، وتقسيم بغداد بين الجماعات وربما بين الدول. وباختصار كان هناك دائما ثمنا للخطيئة الدولية، ولكن الأمر هذه المرة يبدو مختلفا، بل أنه حتى الآن لا توجد عريضة اتهام موجهة إلى أي من الأطراف الدولية. صحيح أنه أشير بشكل ما للمديرين في الشركات والبنوك الكبرى وكيف ضيعوا أموالا طائلة نتيجة قرارات خاطئة بمنح القروض والأموال، أو نتيجة حالة من البذخ التي لم تعرفها النظم الرأسمالية المختلفة في تاريخها. وأحيانا جرى إلقاء اللوم على حكومة جورج بوش، حيث باتت هي الإدارة التي تلقى عليها كافة مساوئ العصر حتى ولو كانت الاتجاهات الاقتصادية المختلفة مستقرة منذ عقود سابقة. ومع ذلك كله فإن أحدا لم يدن، لا فعليا بدخول السجن، أو حتى أدبيا بتقديم عريضة اتهام، وباختصار فإن أحدا لم يدفع الثمن، وعندما لا يدفع أحد ثمن جريمة، فإن دمها يظل معلقا باحثا عن الحقيقة في موضوع لا يحتمل غيرها. وعندها تصبح الشكوك والظنون وضعف التوقعات والتنبؤات منطقية، وتظل الأسواق على حالها مضطربة بالأشباح والعفاريت التي لا تهدأ.

تفسير آخر هو أن لكل أزمة نموذج ما تسير عليه، فالصراعات الإنسانية الكبرى نجمت عن صراع مصالح متناقضة، واختلالات في توازن القوى، وميول حول تغيير دفة التاريخ واتجاهاته من ناحية إلى ناحية أخرى. وكان سائدا دائما نماذج لصعود وسقوط القوى العظمى، وبجوارها نماذج لصراع الحضارات وصدام الشمولية والديمقراطية. وفي هذه الأزمة المستحكمة لا يوجد نموذج يمكن الاستناد إليه. وفي وقت من الأوقات كان النموذج هو «حدود النمو» الذي ولده نادي روما في منتصف السبعينيات وقال ببساطة إن موارد العالم بطريقها إلى النضوب لأن الزيادة السكانية ومطالبها تستهلك هذه الموارد. وعندما ارتفعت أسعار النفط خلال العامين الأخيرين، وبالذات حتى منتصف الصيف، قيل إن حدود النمو قد عادت مرة أخرى بعد انضمام قرابة 800 مليون نسمة من مستهلكي الصين والهند وغيرهم من دول ناجحة أخرى إلى الطبقة الوسطى العالمية فكان طبيعيا ألا يتمكن نفط وغذاء العالم من سد الحاجات المتنامية. وهكذا وقف العالم على أطراف أصابعه يراقب ارتفاعات لأسعار البترول وصلت به إلى 147 دولارا للبرميل.

ولكن هذا النموذج سقط قبل انتهاء الصيف، وليس معقولا أن يكون مستهلكو الصين والهند وغيرهما قد توقفوا عن الاستهلاك أو قيادة السيارات خلال الشهور الثلاثة الأخيرة حتى يهبط سعر البرميل إلى 50 دولارا. وجاء نموذج آخر هو نموذج «الكساد الكبير» لكي يحل محل نموذج «حدود النمو». والكساد كما هو معروف حالة طويلة المدى من انكماش الطلب وانهيار الأسواق من خلال سلسلة من التراجع عن الاستهلاك فيؤدي إلى خسارة الشركات التي تبدأ بدورها في طرد العمال لتقليل النفقات، فيقل الطلب مرة أخرى لأن العمال والموظفين يتوقفون عن دخول الأسواق. وهكذا تغير الاقتصاد العالمي تماما من زيادة الطلب على العرض فأصبح للنمو حدود، ولكي يكون زيادة العرض على الطلب فيصير النمو غير موجود على الإطلاق ويمتد الانكماش من العقارات إلى البنوك، ومن البنوك إلى شركات التأمين، ومن شركات التأمين إلى شركات السيارات، ومن هذه الأخيرة سوف تمتد إلى العديد من الصناعات المغذية التي كانت قد انهارت جزئيا مع انهيار العقارات من قبل. وهكذا تكتمل حلقة الانكماش التي أعلن عنها رسميا بالنسبة لمنطقة اليورو وباقي إعلانها في منطقة الدولار.

كيف انقلب الحال من نموذج إلى آخر هو المقدمة الطبيعية للتعامل مع الأزمة العالمية المعاصرة، ولا يمكن الانتقال من «حدود النمو» إلى «الكساد العظيم» بمثل هذه السهولة، والمسألة كما تبدو أن العالم يمر بمرحلة جديدة لم يعرفها تاريخ من قبل وربما يكون جوهرها أن العولمة لا يمكن حكمها بدون العالمية، والعالمية لا يمكن التعامل معها دون سلطة الدولة، والدولة مقيدة بحركة وتوازنات القوى، فكيف يكون حال كل ذلك بينما تتجمع في الأفق كل أنواع العواصف والأعاصير السياسية والاقتصادية كما لم تتجمع من قبل؟