ضريبة العبقرية

TT

أقرأ في هذه الأيام مقابلة صحافية طويلة عريضة أجراها يوسف القعيد مع محمد حسنين هيكل، وخاض فيها وصال وجال إلى أن أصبحت كتاباً من 478 صفحة، وعنوانه: «عبد الناصر والمثقفون والثقافة».

المهم أن هيكل كانت له علاقة يوماً ما مع توفيق الحكيم، عندما كان الأول رئيساً لتحرير أخبار اليوم، والثاني مجرد كاتب في تلك الصحيفة، ونشأت بينهما علاقة تطورت إلى أنهما يتغديان كل يوم مع بعضهما البعض، ومعروف عن الحكيم بخله الشديد، واشترط على هيكل لكي لا يحدث خلاف أو يلتبس عليهما الأمر أن يتفقا على قاعدة يقول فيها: إن كنت أنت تختار المحل الذي سوف نذهب إليه، أنا الذي اختار لك الطبق الذي تأكله، وان فضلت أنت اختيار الطبق، أنا الذي اختار المحل. وللحكيم موقف غريب مع ابنه الوحيد بسبب سلفة من (أحد عشر ألف جنيه) سلفها لابنه الممتهن للموسيقى لشراء آلات وتكوين فرقة، وأراد أن يسترد تلك السلفة بين ليلة وضحاها، وعندما تعذر على الابن أن يسددها دفعة واحدة، وصلت الخناقات بينهما إلى عنان السماء، ومات بعدها الابن، وظل والده بقية حياته يتحسر على أنه لم يسترد كامل دينه من ابنه. صحيح أنه ورث الآلات الموسيقية، غير أنه عندما باعها نزل سعرها للنصف.

ولا ينافس الحكيم في البخل غير المطرب محمد عبد الوهاب، وهذه الصفة من وجهة نظري لا (تضيرهما)، فهما إن كانا بخيلين بمالهما، فهما كانا سخيين وكريمين جداً بإبداعهما وعطائهما.

ومن المواقف التي جناها البخل على عبد الوهاب ما حصل له في أوائل الستينيات، عندما كان عائداً بسيارته وقت الظهيرة إلى منزله راجعاً من الاستديو بعد أن سجل أغنية جديدة له.

أنزله السائق عند باب العمارة وذهب بالسيارة، وبالصدفة كان هناك رجل نوبي طويل عريض مصاب باختلال عقلي واقفا على الرصيف عند مدخل العمارة، وما أن شاهد عبد الوهاب حتى هب يسلم عليه ويمد يده له طالباً أن يمنحه جنيهاً لوجه الله لكي يتغدى به، غير أن عبد الوهاب صده في المرة الأولى، ولحق به النوبي يستعطفه، غير أنه في المرة الثانية طرده وشتمه، فما كان من ذلك المسكين الذي غلى الدم في عروقه إلاّ أن أمسك (بكرفتة) عبد الوهاب وجذبه منها، ومن سوء حظ المطرب في ذلك الوقت أنه لم يكن هناك أحد يسير في الشارع، حتى بواب العمارة لم يكن حاضراً، وبدأ النوبي يأخذ راحته، ورفع عبد الوهاب إلى الأعلى ثم هبد به أرضاً، ثم أخذت اللكمات تتوالى على وجهه، وطارت نظارته وتكسرت على الأرض، وبحكم أن نظره ضعيف، فقد أخطأ مكان المصعد وهو هارب له، وتكرفس في بير السلم أو الدرج، والنوبي مستمر في ضربه من دون أية رحمة، ولولا أن البواب حضر يجري بعد أن سمع الصراخ والتخبيط وافتكه من بين براثن ذلك المتخلف لكان قد قضى عليه.

ونقلوا عبد الوهاب إلى المستشفى مضرجاً بدمائه، وظل في المستشفى أكثر من شهر كامل يتعالج من جراحه وأوجاعه.. وكتب البعض قائلين: لو أن عبد الوهاب أعطى لذلك الشحاذ المعتوه المسكين (جنيهاً واحداً) لكان وفر على نفسه آلاف الجنيهات التي دفعها للمستشفى لعلاجه.

ولكن هذه هي ضريبة (العبقرية)، ويا لها من ضريبة أو (ضربة). ولو أنهم خيروني في ذلك الموقف أن أكون عبد الوهاب أو النوبي، لاخترت بكل تأكيد أن أكون النوبي، لأنني من هواة الضرب.

[email protected]