الحل الأميركي في العراق مرشح للتطبيق في أفغانستان

TT

أمران برزا في نهاية الاسبوع الماضي: توقيع الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن، وتصريح علني للرئيس الافغاني حامد كرزاي مبدياً فيه استعداده للتفاوض مباشرة مع الملا عمر زعيم طالبان»، المتحالف مع تنظيم «القاعدة»، رغم جائزة العشرة ملايين دولار، التي وضعتها اميركا لمن يرشدها اليه.

ان اليوم الذي ستخرج فيه كل القوات الأجنبية من العراق صار قريباً، وبات الطرفان على موعد: الأميركي للخروج والعراقي لتحمل كافة المسؤوليات الأمنية.

سألت زميلة لي في احدى الصحف البريطانية، عادت اخيراً من العراق، عن بغداد فقالت: لم تعد كما كنت تعرفينها. كل اشجار النخيل التي كانت ترحب بالقادمين على طريق المطار، مقطوعة، وتبدو الآن كالأطفال المعاقين. اما الاحياء في بغداد، فإنها مقسّمة بجدران اسمنتية عالية، وهذه كلها ستنهار عندما ستخرج كل القوات الأجنبية من العراق، لتبدأ حرب بين العراقيين لا يعرف احد كيف ستنتهي. واضافت: «اما الوضع في العراق ككل، فإنه «مجّمد» الآن حتى موعد خروج تلك القوات، لأنه لم تجر مفاوضات سلام بين العراقيين انفسهم، كما لم تحصل اي مصالحة حقيقية، وكل هذا الهدوء النسبي هو نتيجة اتفاقيات محلية، وعدد من اتفاقيات وقف اطلاق النار، اضافة الى ثورة «الصحوات» السنّية ضد «القاعدة». واستبعدت ان توافق حكومة نوري المالكي التي يغلب عليها العنصر الشيعي، على ادماج مقاتلي «الصحوات» بالأجهزة الامنية، فهي ترى ان راتب 300 دولار لكل فرد من هؤلاء (عددهم 100 الف) مكلف، في حين ان الأميركيين وجدوا انه ارخص ثمن لتوفير استقرار مؤقت».

ان الاتفاقية ستؤدي الى الانسحاب الكلي بعد ثماني سنوات من الغزو اي في نهاية شهر كانون الاول (ديسمبر) عام 2011، لكن هذا كله يعتمد على الأوضاع الأمنية. اذا وافق مجلس النواب العراقي على المصادقة على الاتفاقية، والأرجح ان يفعل، فسوف يبدأ تنفيذها قبل تسلم الرئيس الاميركي المنتخب باراك اوباما الحكم، وهي لا تتعارض تقريباً مع ما دعا اليه في حملته، ثم ان توقيت السنتين للانسحاب من العراق جنب ادارة اوباما، ما سماه احد المعلقين السياسيين «ازمة مدنية ـ عسكرية»، لو أصر الرئيس المنتخب على الانسحاب خلال 16 شهراً.

لقد ظل اوباما على اطلاع على سير المفاوضات، وكان ترك لنفسه هامشاً للتحرك بقوله، ان بعضاً من القوات الأميركية قد يبقى بعد الانسحاب الاساسي. لا يوافق كل العراقيين على هذه الاتفاقية، بعضهم يدعو الى ضرورة الانسحاب الاميركي فوراً، ومن دون اي اتفاقية (ابرزهم مقتدى الصدر)، لكن يُرجع البعض هذه الدعوة الى ضغوط من ايران التي تريد خروج الأميركيين من العراق بأسرع وقت ممكن، وفي الواقع هناك تأييد واسع للاتفاق، اكثر مما يظهر، اذ من المستبعد ان تكون حكومة المالكي بالذات وافقت على الاتفاقية، من دون التأكد من ان الايرانيين غير معترضين. لكن، كما قال لي احد المراجع الشرق اوسطية، انه لا يستبعد ان تكون ايران لا تعرف كيفية التصرف تجاه هذه الاتفاقية. فهي من ناحية حركت مقتدى الصدر الذي هدد بتحريك الشارع، رغم ان الشارع لم يعد يلبي كما في السابق، ومن ناحية سمحت لحكومة المالكي بالموافقة عليها، فيما هي تنتظر مجيء الإدارة الأميركية لتحاول التوصل معها الى تسوية شاملة يكون العراق من ضمنها.

على كل، يبدو الارتباك الايراني تجاه العراق من رد الفعل الذي اظهرته طهران تجاه الوجود العسكري الأجنبي في افغانستان، فهي كمن ينتقل لفرض «الاحساس بوجوده» من العراق الى افغانستان.

منذ مدة وبريطانيا تفكر في مخرج لأفغانستان، بعدما تكاثر سقوط ضحايا من جنودها هناك، ابرز الطروحات فكرة الأمن الإقليمي، بحيث تلتقي كل الاطراف المؤثرة هناك مثل السعودية، باكستان، ايران، الهند، وروسيا اضافة الى اميركا وبريطانيا لوضع آلية للتشاور حول افضل الحلول. وقد زار السفير البريطاني في كابول السير شيرارد كوبر كولز، ايران قبل حوالي اسبوعين. والأسبوع الماضي زار الهند لهذا الغرض، وقال هناك: «ان استراتيجيتنا هي توفير الدعم الدولي لأفغانستان وحكومتها، وما نريده لمواجهة العمليات الداخلية، هو سحب قواتنا من خوض المعارك المباشرة، بحيث يحل الجيش الأفغاني محل القوات الاجنبية».

الثلاثاء قبل الماضي، وفي مؤتمر دولي حول افغانستان عُقد في دوشانبيه، حضرته اميركا، قال رئيس الوفد الايراني علي شردوست، ان على الدول الغربية ان تترك القضية الأفغانية للافغان، «فإيران تعارض اي وجود للقوات الاجنبية وتدخلها في افغانستان»، واستهزأ من اقتراحات هذه الدول «التي تتجاهل مصالح الدول المجاورة لافغانستان وتصر في الوقت نفسه على ادارة الشؤون الداخلية لهذه البلاد».

انطلاقاً من النقاش غير الأفغاني، حول افغانستان وبعد الاتفاقية الأمنية في العراق التي حصلت بعد تشكيل «مجالس الصحوات» حيث حول 100 الف مقاتل اسلحتهم ضد «القاعدة»، يمكن قراءة تصريحات الرئيس الافغاني كرزاي التي فاجأت الكثيرين بحدتها لا سيما أن كرزاي يعتمد لبقاء نظامه وحتى لحماية حياته الشخصية، على الولايات المتحدة. قال في مؤتمره الصحفي: «اذا قلت إنني اريد الحماية للملا عمر، فإن أمام المجموعة الدولية اذا لم توافق، خياراً: اما اقالتي او الانسحاب».

ليس واضحاً ما اذا كان الملا عمر شخصياً سيتجاوب مع حماية كرزاي، لكن الأخير في هذا الوقت بالذات يريد اظهار بعض الاستقلالية الشكلية، لأن العمليات الاميركية ستتقلص في العراق، وسيتحول التركيز على افغانستان، وهو اراد توجيه رسالة الى الجنرال دايفيد بترايوس رئيس القيادة العسكرية المركزية التي تدير العمليات في العراق وافغانستان.

يعرف بترايوس ان تغييراً اساسياً في الموقف الأميركي، ادى الى الاتفاقية بين بغداد وواشنطن، وهو التفاوض مع المتمردين السّنة، والقبول بأن يصبحوا جزءاً من التحالف الحاكم في بغداد، وتقبل الطرف الاميركي بأن الحكومة العراقية لن تكون بالضرورة اميركية الميول، مقابل ألا تكون دمية في يد ايران.

الجنرال الاميركي يفكر في تطبيق هذه الاستراتيجية في افغانستان، مع علمه بأن الوضع هناك مختلف واكثر تعقيداً. قال انه مستعد للتفاوض مع عناصر من «طالبان» والسماح لهم بالمشاركة في الحكومة، والقبول بالتالي ألا تكون الحكومة اميركية الميول مائة في المائة. اراد كرزاي ان يبلغ بترايوس، ان الملا عمر هو من يقرر عن «طالبان» في النهاية، وان بترايوس باقتراحه التفاوض مع «طالبان»، يبدو كمن يريد التخلص من كرزاي، لذلك، قرر كرزاي ان يبادر هو بالانفتاح على اكثر العناصر تشدداً ليحمي نفسه، حتى اذا ما سار الأميركيون، كما فعلوا في العراق، وتفاوضوا مع «طالبان»، يحفظ هو خطاً له مع الملا عمر على الأقل.

الاختلاف بين كرزاي والمالكي، ان الأول اتت به ودعمته اميركا، اما الثاني فإنه موال لإيران، وترك للأميركيين التفاوض مع المقاتلين السّنة المناوئين له، كما ترك لهم القضاء على مناوئيه الشيعة، ولم يلتزم امامهم بدمج مقاتلي «الصحوات» في صفوف القوى الأمنية التي يغلب عليها الشيعة العراقيون الموالون لايران.

وكأن كرزاي صار متوجساً من ان تفكير الجنرال بترايوس يلحظ ايضاً الانتخابات الرئاسية المقبلة في افغانستان التي قد تجعل الأميركيين لا يتشددون في توفير كل الظروف لاعادة انتخابه. ان الحوار الافغاني الداخلي مطلوب، لهذا فإن المصالحة مع عناصر من «طالبان» ضرورية لإنجاح الحوار الداخلي، وكي يتم ذلك قد تحتاج الادارة الأميركية المقبلة الى عقد قمة اقليمية موسعة حول افغانستان يتاح فيها المجال لبعض الدول المشاركة مثل روسيا وباكستان وايران مصارحة الإدارة الأميركية بما يهمها، وافساح المجال امام هذه الادارة للافصاح عما تطلبه من التزامات من هذه الدول، خصوصاً لجهة عدم التدخل واثارة القلاقل في افغانستان.

في الفترة الاخيرة، دأبت الصحف البريطانية على الاشارة الى اولى الحملات البريطانية الى افغانستان قبل 200 عام، عندما حمل احد المبعوثين الاسكوتلنديين الهدايا الى ملك كابول، وكتب عن الباشتون: «انهم قوم شجعان، مخلصون لاصدقائهم، رحيمون بمن يعتمد عليهم، يحبون الضيف، يقضون وقتهم في القتال ضد بعضهم البعض ويتحدون فوراً لمواجهة اي غاز لأرضهم، ليعودوا بعدها الى الاقتتال».

انها افغانستان البلاد التي تريد المحافظة على تقاليدها وغموضها. وقد تكون الضحية المقبلة رئاسة كرزاي الذي ناور وفشل، اما الجنرال بترايوس فإن امامه ثلاثة خيارات: إما مواصلة حرب لن تستطيع في النهاية اميركا الانتصار فيها او الهزيمة، والانسحاب وترك الاوضاع تفرز ما تشاء، او التعاطي مع «طالبان» كما فعلت واشنطن مع السنّة في العراق.

السنّة هناك فضلوا التعامل مباشرة مع الاميركيين، وكذلك ستفعل «طالبان».