«سفينة عبدالله».. إصعد تسْلَم واسلُك تفُز

TT

كانت كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز امام قادة دول لبوا الدعوة الى الدورة الثانية لـ«مؤتمر حوار الأديان والحضارات» التي بدأت في مقر الامم المتحدة في نيويورك الاربعاء 17ـ11ـ2008 وانهت اعمالها في اليوم التالي (الخميس) هي كلمة الحق التي يراد بها الحق ولا شيء غيره ويراد من وراء القصد فيها صعود المجتمع الدولي ومن دون بلد او آخر الى «سفينة عبد الله بن عبد العزيز» اطال الله عمره وسدد خطاه لينجز سعيه الذي هو إذا جاز التشبيه مثل سفينة نوح عليه السلام من حيث الهدف.. سفينة إنقاذ من طوفان الإرهاب والبغضاء والانهيار الخلقي وانكسار مهابة التقاليد الحميدة.

وحيث أن الملك عبد الله بن عبد العزيز ليس مشغول البال كما آخرين بالاجراءات الدستورية وغير الدستورية التي تتيح لهم البقاء في قمة السلطة ولاية رئاسية ثالثة ورابعة وأكثر وإنما انشغال باله هو في المصير العربي والإسلامي وفي مستقبل أجيال الآمتين، فإن ما يقوله له طابع الوصفة كما وصفات الطبيب للمرضى وكما مضمون خارطة الطريق لمن هم بين حكام العالم في حالة من التيه يبرعون في إصدار الأوامر من موقع السلطات التي يملكونها لكنهم لا يعرفون كيفية الخروج من حالة التخبط التي يعيشونها وتكابد شعوبهم من جرَّائها.

لقد وضع عبد الله بن عبد العزيز الذي عندما يتحدث فإنه ينطلق من ثقة عميقة بالنفس ومن ايمان مسنود بتراث ومن معارَكة للحياة بحلوها ومرها، امام الجمع الدولي واقع الحال من دون تزويق للكلمات وباسلوب من يرى ان خير الكلام هو ما قل ودل. واورد عبارات يتمنى كل سامعيه من القادة قولها، راسماً معالم طريق الهداية الاجتماعية على النحو الآتي: إما ان يعيش الانسان مع اخيه الانسان في سلام وإما يحترق الاثنان بنيران سوء الفهم والحقد والكراهية. وهو كمسلم تتشرف بلاده بمكرمة من عند رب العالمين وهي ان الحرمين الشريفين على ارضها بين مكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة ينتظران بحرقة في نفس عبد الله بن عبد العزيز كرمز كريم لأمته الاسلامية فك أسْر الحَرَم الثالث، يستند في ما يدعو اليه الى الآية الكريمة التي هي روح مؤتمر حوار الاديان (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم). وهذه الآية الكريمة تلخص الدافع الديني الى جانب الدافع الانساني لاستنباط الملك عبد الله بن عبد العزيز فكرة ان يحاول «حوار الأديان» إيجاد مخارج لمشاكل العالم استعصى بسبب خشونة المفاهيم السياسية لدى البعض او بسبب التزامات تُكبِّل العقل قبل اليدين، وضْعها برسم المناقشة.. وربما استعصى عليهم اصلاً استنباطها.

ولكي لا يكون المؤتمر مناسبة احتفالية وتقع اسيرة الرتابة والبيروقراطية فإن الملك عبد الله بن عبد العزيز رأى من البداية انشاء لجنة تواصل الحوار كي لا تذوب المحاولة في بحر الهموم والقضايا الطارئة والتي ما كانت لتطرأ لو أن مفهوم الحوار على نحو ما يدور في خاطر الملك عبد الله يأخذ طريقه إلى شاطئ الحلول.

العلة التي يراها الملك عبد الله بن عبد العزيز هي في الحروب التي قد تحقق لمحارب بصيغة الغزو او الطمع بحق ليس له سيطرة آنية، لكن مقابل كل يوم من السيطرة يسقط المئات من بني البشر قتلى وجرحى ومعوقين وتتزايد تبعاً لذلك نسبة الأيتام في المجتمع ونسبة الفقر بين العائلات ونسبة الدمار في البنيان. وفي نهاية الأمر لا جدوى من كل ذلك. فهذه اسرائيل بعد ستين سنة من اغتصاب وطن لا تستطيع حسم امر بقائها بغير العدوان المستمر، وكلما حدث عدوان على الآخرين تناقصت قدرة إسرائيل على تثبيت وجودها. وهذه الدولة الأعظم اميركا بعد كل الذي فعلَتْه بالعراق، وفي اعتقاد الرئيس بوش ان الفِعْل كان فِعْل انقاذ، تجد نفسها مرفوضة حتى من إبرام معاهدة تخشى في حال عدم ابرامها ان تنبعث من بين رماد الحريق البوشي للعراق صرخات مظلومين تأخذ طريقها الى حاكم وطني عادل ويخاف الله فيقاضي كل من اساء الى بلاد الرافدين حتى اذا كان المسيء بلغ من العمر عتياً وهو هنا بوش الأب ومعه مارغريت تاتشر، أو اذا كان بوش الإبن نفسه أو بلير نفسه أو برلسكوني نفسه.

وكما حال المؤمن الذي يخشى رب العالمين ويعمل لآخرته كأنه يعيش أبداً ويستلهم القول الحَسَن من دينه الحنيف وما أنزله الله سبحانه وتعالى من آيات، فإن عبد الله بن عبد العزيز في ما طرحه بدءاً بالشق السياسي من رؤيته للسلام، أي أفكاره التي غدت في القمة الدورية الثانية في بيروت عام 2002 مبادرة عربية لقيت الإجماع لحاجة كل اخوانه القادة العرب المشاركين في المؤتمر اليها، وصولاً الى فكرة «حوار الأديان والحضارات» كان يبحث من موقعه المتعدد الاهمية عن حل ينقذ الامتين. ولعله رأى في الاحوال الراهنة حال الامة العربية مع نفسها وحال هذه الامة مع الامة الاسلامية وحال الامتين مع ما هو حاصل من بعض دول العالم نحو قضاياهما، مشهداً مفزعاً قد تكون من آثاره حالة طوفان لكل ما هو ضد الانسان والانسانية في زمن الحداثة والتطاول على التقاليد والتراث والخصوصية الثقافية والدينية، فضلاً عن ان الرحمة تنحسر والكراهية تنتشر والبر بالوالدين يندثر، والاحتراب بين الأخ وأخيه أصبح من عادات السوء.. هذا إلى أن نظرة أبناء الاديان الى بعضهم غدت قائمة على الحذر ينتظر كل منهم لحظة الاجهاز على الآخر قتلاً أو تكفيراً أو اتهاماً باطلاً. وعملاً بما يوصي به الدين الحنيف لجهة الاقتداء بأعمال الانبياء ورجال الله الصالحين وأقوالهم وبقول الرسول (ص) في هذا الشأن (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فإن الملك عبد الله بن عبد العزيز استحضر قبل أن يبادر وأن يبتكر ما رآه ينطبق على الاحوال الراهنة. وقد يكون تصوَّر في لحظة صفاء وخشوع ان طوفان الـ2009 خصوصاً بعد أم الكوارث المالية احد افرازات الحقبة البوشية، سيكون شبيهاً بالطوفان في بعض المعاني من الطوفان الذي بفضل سفينة نوح عليه السلام التي ملأها بزوجين اثنين من كل حيوان وطير ووحش حقق مطلب رب العالمين في استمرارية الحياة. كما ان مبادرة عبد الله بن عبد العزيز بجناحيها السياسي في قمة بيروت عام 2002 ثم الحوار الديني في المؤتمرين الأول في مدريد والثاني في رحاب مقر منظمة الامم المتحدة في نيويورك كانت ايضاً، الى جانب السفينة مثل الجبل الذي عصم خطوة نوح من الماء، الوسيلة التي ستعصم في العام 2009 وما بعده من سنين من طوفان الحروب والبغضاء والكراهية والدماء والانهيارات المالية والجوع الذي في حال بدأ هذه المرة فإن رقعته ستكون متسعة ما دام النضوب بدأ يقتحم خزائن الدول المقتدرة.

وكما حصل مع نوح سنجد من يقولون لعبد الله بن عبد العزيز إنه جادلهم وأكثَر الجدال وان مقياس صدقه هو ما سينتج عن مشروعه. وسنجد الملك الحكيم يقول لكل مجادِل: ما اطرحُه هو الطريق. أسلك تفُز. كما سنجده يردد عليهم وأمامهم قول الله سبحانه وتعالى: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا اصابعهم في آذانهم وإستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً). كما سنجده يردد قوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد).

نخلص الى القول إن دهراً من العقائد والمشاريع الحزبية ومعها جولات من الانقلابات العسكرية والصراعات الدموية والاغتيالات والحروب والغزوات يستمر والحال من سيئ الى اسوأ. ثم ها هي المبادرة بجناحيها السياسي والديني يضعها الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهو مرتاح الضمير مُتعب البدن من كثرة الترحال لإنقاذ ما يمكن انقاذه متحملاً الافتراء والتجني ونكران الجميل، امام المجتمع الدولي المثقل بأزمات لن يكون من السهل حلها. وكأنما لسان حاله يقول للجميع في المنطقة وفي العالم ومن دون اسثناء احد خلال اجتماعات نيويورك ثم اجتماعات قمة واشنطن المالية: هذه هي «سفينة عبد الله». إصعد تسلم. وأسلُك تفُز.

مع خير تمنياتنا لصاحب السفينة بأن لا يصيبه يأس نوح عليه السلام.