قراصنة البحر والمضيق والمحيط.. المعنى والدلالات

TT

قبل أسبوع خطف «القراصنة» الصوماليون (؟) ناقلةً ضخمةً للبترول السعودي أمام شواطئ كينيا هذه المرة، وليس أمام شواطئ الصومال أو اليمن! وبعدها بيومين خطفوا سفينةً إيرانيةً تحمل قمحاً وبهاتين المناسبتين ذكر مراقبون دوليون أنّ عدد السفن التجارية التي خُطفت خلال عشرة أشهُر في تلك المساحة التي تمتدُّ على مدى ثلاثمائة ميل بحري، يزيد على المائة. وكلُّ أحداث الخطْف الغريبة هذه، وبحسب معلومات القوى الموجودة بتلك المنطقة، قامت وتقومُ بها عصاباتٌ مسلَّحةٌ تنطلقُ من شواطئ الصومال، ولا يزيدُ عددُ المشاركين في كلّ تلك «الغزوات» البحرية على الألفين، وهم لا يملكون غير زوارق قديمة، وأسلحةٍ رشّاشة، ومدافع صغيرة قصيرة المدى. ومنذ ستة أشهُرٍ تقف في مواجهة تلك العصابات سفنٌ حربيةٌ وزوارق أميركيةٌ وألمانيةٌ وبريطانيةٌ وفرنسيةٌ وروسيةٌ وإيطالية؛ بالإضافة إلى الوسائل البحرية المسلَّحة لدول المنطقة وهي اليمن وإريتريا وكينيا وجيبوتي! ولهذا المشهد الغريب بالمحيط الهندي والبحار والمضائق ثلاثة جوانب: جانب ما يحدُثُ في الصومال، وجانبُ ما يحدث في القرن الإفريقي، وجانبُ النِزال الجاري بين الولايات المتحدة وإيران. والجانب الرابع: قراصنة جمهورية «بونت» أو أرض الصومال.

في الصومال غابت السلطة المركزية منذ العام 1992، وسيطر أُمراءُ الحرب القَبَليون على أقسام مختلفة من أرض الدولة الصومالية السابقة. وما جرت محاولاتٌ جديةٌ لترميم الوضْع هناك، لا من جانب دُول الجامعة العربية، ولا من جانب المجتمع الدولي؛ وذلك بعد أن فشل الإنزالُ الأميركيُّ/ الدوليُّ هناك عام 1993ـ1994، وخَسِرَ المشاركون فيه وقتَها لمكافحة المجاعة عشراتٍ من جنودهم من جنسياتٍ أميركيةٍ وباكستانيةٍ وتبعياتٍ أُخرى. لكنْ منذ العام 1998، وبعد تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، بدأ الأميركيون ثم الأوروبيون يتحدثون عن نشاطاتٍ للقاعدة في الصومال ومن حوله. ومنذ العام 2004 أقبلت قواتٌ من حلف الأطلسي على التمركُزَ في جيبوتي، وفي الموانئ المجاورة لمنع القاعدة والإرهابيين من التسلُّل من الصومال وإليه. وعاد الأميركيون رغم ذلك لدقّ ناقوس الخطر أواخر العام 2006 بسبب ظهور مجموعات مسلّحة محلية في نواحي مقديشو العاصمة، لا تنتمي إلى أُمراء الحرب هناك، بل سَمّى قادتُها أنفُسَهُمْ: المحاكم الإسلامية. وقد أعلن هؤلاء أنهم إنما يريدون حماية أَمْن وحياة المواطنين الصوماليين من عصابات أُمراء الحرب، الذين كانوا يشاركون في الحكومة المؤقّتة من جهة، ويمارسون في الوقتِ نفسِه السيطرة والسطو في سائر أنحاء الأرض الصومالية. جَزَعُ الولايات المتحدة جاء ـ بحسب ما أُعلن ـ من جرّاء الزعم أنّ لهؤلاء الإسلاميين علائق بالقاعدة. وقد نجحت ميليشيا المحاكم في السيطرة على أكثر أجزاء الأرض الصومالية، رغم الدعم الأميركي لقوات الحكومة. وفجأةً وبدون سابق إنذار دفع الأميركيون الجيش الإثيوبيَّ للتدخُّل لنُصرة الحكومة القائمة، فاندحرت ميليشيا المحاكم ظاهراً، لكنّ الصراعَ دخل في مسارٍ إقليميٍ آخر: مسار الصراع في القرن الإفريقي بين إثيوبيا وإريتريا العدوَّين اللَّدودين. ولا أحد يدري كيف اختفت ميليشيا المحاكم وقتها، إنما في الشهور الثلاثة الأخيرة ظهرت ميليشيا جديدة تحت اسم: شباب المجاهدين، تكادُ الآن تدحرُ القوات الإثيوبية ـ وبدعمٍ من إريتريا كما يقال وليس من القاعدة ـ في حين تكادُ الحكومةُ المؤقتةُ وقواتُها أن تختفي وتذوبَ إلى غير رجعة. وآخِر الأخبار ما قاله رئيس جمهورية الحكومة المؤقتة: أنّ العلّةَ في الانهيار الحاصل هي في انشقاق رئيس وزراء تلك الحكومة، ودعمه لميليشيا شباب المجاهدين!

أمّا الجانبُ الثالثُ في المشهد المؤْسي فهو الكلامُ الأميركي طوالَ السنوات الثلاث الماضية عن الخَطَر الإيراني على مضيق هُرمُز، أي من الطرف الآخَر. والإيرانيون بدورهم ما قصّروا في إضفاء صدقية على الدعوى الأميركية؛ إذ يقومون كلَّ شهرٍ أو أقلّ بتحركٍ بحريٍ علنيٍ في البحر المجاور مهدِّدين بإقفال مضيق هُرمُز إذا تعدّتْ عليهم الولاياتُ المتحدة! وهكذا ما اهتمَّ الأميركيون منذ العام 2005، بل منذ غزوهم للعراق لهذه الناحية إلاّ بأمرين: خَطَر القاعدة البري والبحري، والخطر الإيراني البحري، وكلاهما تحت اسم الإرهاب!

إنما الغريبُ الغريبُ أنّ هذه الجبهة الرابعة ـ إذا صحَّ التعبير، أي جبهة الغزوات البحرية المنطلِقة من أرض الصومال، لا علاقةَ لها ظاهرة حتى الآن بأيٍ من الجوانب أو الجبهات الثلاث الأُخرى. ففجأةً وقبل قُرابة العشرة أشهُر، أي أواخر العام 2007، بدأ خَطْفُ السُفُن التجارية أمام شواطئ الصومال واليمن وجيبوتي.. والآن كينيا. وحتى الآن كانت أكثر هذه الغزوات تنتهي على خير(!) فالشركاتُ المالكةُ لتلك السُفُن، وبعلم الدول الموجودة بالمنطقة بالفعل؛ كانت تتصل بـ«اللصوص» وتدفع إليهم فديةً فتأخذ سفينتَها وبحّارتها ويا دار ما دخلك شرّ! وفي إحدى المرات قبل شهرٍ ونصف كانت السفينةُ المخطوفةُ تحملُ أسلحةً لأحدى دول المنطقة، وما دافعتْ عن نفسِها، بل دفعت الفديةَ مثلها مثل سِواها، وحرَّرتْ السفينةَ والأسلحة فيما يقال، أو السفينة بدون الأسلحة التي غنمها القراصنة الأشاوس. والغريبُ الغريبُ أيضاً وأيضاً أنّ القوى العظمى بالمنطقة وعلى رأسِها بالطبع الولاياتُ المتحدة كانت قد وضعت سفناً وطوربيدات مقاتلة أمام شواطئ جيبوتي وكينيا وربما اليمن لمكافحة القاعدة. وعندما بدأ خَطْفُ السفن ما بقيت دولةٌ من دول الأطلسي بالإضافة إلى روسيا إلاّ وأرسلتْ قوةً بحريةً إلى ذلك المجال، وسمعْنا بالفعل عن حيلولة هذه القطعة الحربية أو تلك دون خطْف هذه السفينة أو تلك، لكنّ خَطْفَ السفن استمر وتصاعد إلى أن خُطفت الناقلتان السعودية والإيرانية قبل أيام دونما تدخُّلٍ من أحد!

كيف يحصُلُ ذلك، ولماذا ما أمكنَ إنهاؤه؟ فالولاياتُ المتحدةُ تملك خمس قواعد عسكرية وحاملات طائرات في بحر العرب ومضيق هُرمُز والمحيط الهندي ومن حولها. والولايات المتحدةُ قالت علناً لإسرائيل عندما أعلنت الأخيرة، (وهي ضحيةٌ مسكينةٌ دائماً كما هو واضح!) عن خوفها من القوة الصاروخية الإيرانية، إنه ينبغي أن لا تخشى شيئاً، لأنّ طيراً طائراً فوق مضيق هُرمُز أو البحر الأحمر أو المحيط وحتّى سورية وجنوب لبنان، لا يستطيعُ أن ينفذ من شباك الولايات المتحدة وقيادتها المركزية المنتشرة بكثافة في البر والبحر والجو والأقمار الصناعية! فهل الإمبرياليةُ الأميركيةُ نمرٌ من ورق كما كان المرحوم ماوتسي تونغ يقول؟ أم أنّ سياسة «الفوضى البنّاءة» التي اشترعها ديك تشيني ورامسفيلد هي التي ما تزالُ تُوجِّهُ السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط؟ وكيف تعتبرُ الولايات المتحدة مضيق هُرمُز وبحر العرب والبحر الأحمر، والخليج، وما قارب تلك البحار الصغيرة من المحيط الهندي، جزءًا من أمن الولايات المتحدة شخصياً، وتُهدِّدُ الروسَ والإيرانيين في الحرب الباردة وبعدها، بنزاعٍ عالميٍّ، إذا تعرضت مواطنُ الطاقة وممراتُها لأية أخطار، ثم تعجزُ عن حماية تلك الممرات، ليس من القوى البحرية الكبرى، بل من سطو عصابات ٍمسلحةٍ صغيرة؟!

ثم ماذا كان يكلّف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (والصومال من المستعمرات السابقة لإيطاليا وبريطانيا) العمل بهمةٍ بالفعل على إعادة الدولة إلى الصومال، وإعادة الصومال إلى المجتمع الدولي؟ فحتّى من الناحية المادية يقالُ إنّ الفديات المدفوعة للقراصنة حتى الآن تتجاوزُ المائتي مليون دولار، في حين يُعاني أكثر من مليون صومالي من المجاعة، وكان يمكن إنفاق لا أكثر من مائة مليون دولار على قوةٍ دوليةٍ تُساعدُ على إعادة الأمن إلى ذلك البلد المعذَّب! فالصوماليون الذين ابتلعهم البحر خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وهم يحاولون الفرار إلى اليمن وإريتريا وكينيا وجيبوتي، هرباً من الحرب الأهلية والمجاعة، يتجاوزُ عددُهُم العشرين ألفاً. والذين نجحوا في الهرب إلى تلك البلدان وما وراءها يتجاوزُ عددُهم نصف المليون! وبدلاً من ذلك، ومن الاهتمام بتأمين المساعدات الإغاثية للجائعين والمعذَّبين، تعمدُ الولاياتُ المتحدةُ إلى زيادة مصائب الصومال بإدخاله في نزاعات القرن الإفريقي، والإرهاب، والنزاع التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا. هل لأنّ الناسَ فقراء لا يستحقُّون المساعدة، تماماً مثلما حصل بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي حيث قُتِلَ مليون إنسان، وعاد الاضطرابُ إلى منطقة البحيرات العُظمى والكونغو في الأسابيع الأخيرة؟!

لا شكّ أنّ أحداثَ السودان والعراق وفلسطين والسياسات الأميركية والغربية في السنوات الأخيرة تجاهها، شديدة الغرابة، وأدنى إلى تصرفات القراصنة وقطّاع الطرق. ومع ذلك فإنّ ما يحدث في الصومال، وأمام شواطئه منذ قُرابة العقدين، يستعصي على العقل والمنطق، ويفجع إنسانية الإنسان. فهنيئاً للعالم بهذه «القيادة» الحامية لأمنه واستقراره. وهنيئاً لقراصنة الصومال هذه الغنائم الباردة:

إذا كان ربُّ البيت بالدفّ ضارباً فشيمةُ أهل البيت كلّهم الرقصُ