حوار المصيف والملجأ

TT

في مدينة فاس المغربية، حيث كنت الأسبوع المنصرم، حضرت المؤتمر الدولي لتحالف الحضارات والتنوع الثقافي، الذي نظمه معهد الدراسات الاستراتيجية الذي يرأسه صديقنا الشاب النابه عبد الحق عزوزي، بحضور جم غفير من كبار الباحثين والخبراء وصناع القرار من العالمين الإسلامي والغربي.

شاركت في إحدى الجلسات العامة المخصصة للحوار المتوسطي، في سياق المشروع الطموح الذي طرحه الرئيس الفرنسي ساركوزي للاندماج بين ضفتي هذا البحر، الذي شكل قنطرة التواصل التاريخي بين الفضاء الأوروبي والمجال الإسلامي.

بدأت مداخلتي بالإشارة إلى تعريف الفيلسوف الألماني بيتر سلوتدردايك للاتحاد الأوروبي، الذي اعتبره مجرد «مصيف هادئ ومعزول لعجائز مرفهين مسالمين»، إشارة إلى غياب سياسة دفاعية أوروبية مشتركة، وتحول الاتحاد القاري إلى ناد اقتصادي مغلق بدون أفق تاريخي.

وقد اعتبرت أن المقابل لهذه الاستعارة هو صورة «الملجأ» أو المحتشد الذي يعبر اصدق تعبير عن وضع سكان الضفة الجنوبية من العرب والأتراك الذين يعيشون في معازل البؤس والفقر، في أمل الهجرة إلى المصيف الذهبي المغلق.

كيف يمكن أن يتم الحوار الناجع بين المصيف والملجأ؟ وهل من سبيل لتوحدهما واندماجهما؟

تبلور نهجان متمايزان في الإجابة عن هذه الإشكالية المحورية:

نهج أول سلك المسلك الاقتصادي ـ الاستراتيجي، بتلمس سبل الشراكة بين المجالين، بحسب نموذج الوحدة الأوروبية التي بدأت مشروعا محدودا للتبادل الاقتصادي وتوطيد علاقات السلم والتعاون بين أمم مزقتها الحروب الطاحنة، ثم أصبحت بعد عقود من التجربة والاختبار فضاء مندمجا وتكتلا ناجحا. كان هذا الأفق هو مشروع ساركوزي الأصلي، الذي أراده حلا لمعضلات ثلاث هي: مشكل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، الذي تعارضه فرنسا بشدة، حسم العلاقة بمنطقة شمال أفريقيا التي تعتبرها فرنسا مجالا حيويا لها، ضبط حركة الهجرة من الجنوب التي يعتبرها الأوروبيون التحدي الأمني الأول الذي يواجه بلدانهم. إلا أن هذا الطموح اصطدم برفض دول المجموعة الأوروبية الأخرى التي أرجعته إلى إطار ضيق للتعاون الفني والثقافي، لا يتجاوز حيز مشاريع البيئة والكهرباء وإنشاء المنشآت التعليمية المشتركة.

نهج ثان سلك مسلك الحوار الثقافي والفكري، بطرق موضوعات الحوار بين الديانات والحضارات، التي تقنع إشكاليات التعايش المشترك بين الفضائين، التي هي في الواقع إشكاليات غير دينية أو ثقافية، وان أخذت هذا اللبوس الخادع. وفي مقدمة هذه الإشكالات تحدي الإرهاب والتطرف «الإسلامي» الذي لا تجدي في معالجته الحوارات بين رجال الدين من الملل التوحيدية، او لقاءات المثقفين الذين يتقاسمون نفس السجل الدلالي.

لقد بدا لي كما ذكرت في لقاء فاس المتميز أن على المشروع المتوسطي ان يستلهم درس تشكل الوحدة الأوروبية، من حيث هي فكرة ومفهوم، قبل أن تتجسد في واقع موضوعي ملموس. فالمشروع الاندماجي الأوروبي الذي انبثق في القرن الثامن عشر، تمحور حول فكرتين خصبتين صاغهما الفلاسفة ورجال الفكر، ثم وجدا بعد قرنين صياغتهما السياسية المكتملة.

أما الفكرة الأولى فهي مفهوم «الكونية»الذي تبلور في سياق عقلانية الذات المفكرة الواعية التي يشكل العلم التجريبي إطارها الابستمولوجي، وتشكل الدولة القومية إطارها التاريخي العملي ومرتكزها السياسي ـ الايديولوجي.

أما الفكرة الثانية فهي فكرة «السلم الشامل بين الأمم» التي بلورها الفيلسوف الألماني الكبير كانط، واعتبرها المخرج من عهود الصراع الديني والطائفي الذي مزق القارة القديمة قرونا طويلة. ولقد رأى كانط أن السلم المنشود يبنى على معيار القانون الدولي الذي يصون سيادة الدول في إطار من الالتزامات المشتركة. ومن الجلي ان هذه الفكرة هي التي وجدت تجسيدها من بعد في المؤسسات الدولية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.

تحتاج الفكرة المتوسطية الى هاتين الدعامتين المترابطتين، بحسب سياقات المرحلة، وطبيعة رهاناتها النظرية والثقافية. فبدل كونية عصر الأنوار الأحادية الاقصائية يتعين التفكير في كونية منفتحة اختلافيه قادرة على استيعاب التنوع الثقافي الذي يبسم الفضاء المتوسطي. وبدلا من طوبائية السلم الكوني الشامل، يتعين حسم الملفات العصية التي تعوق الاتحاد المتوسطي، وفي مقدمتها الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي هو نقطة التوتر الرئيسية في المنطقة، ولا بد من حله بما يصون حقوق ومطالب العرب بتصفية الاحتلال وكبح الايديولوجيا الصهيونية الاستيطانية والعنصرية لفسح المجال أمام فضاء متوسطي بدون حروب.