يا فرحة ما تمت

TT

ذهبت قبل أيام لزيارة صديق يعمل في الميناء وهالني منظر السفن العملاقة الراسية وعلى ظهورها مئات بل آلاف (الكونتينرات) ـ أي الحاويات ـ والرافعات تنزلها وتضعها على الشاحنات بكل سلاسة، وتذكرت أنه قبل عدة عقود خلت كانت حركة العالم التجارية بطيئة، إلى أن تفتقت قريحة رجل ضئيل الحجم وقليل الكلام، وكان مجرد سائق سيارة عتيقة ينقل البضائع، وكيف أنه كان يقوم بإنزال البضائع قطعة قطعة إلى أن انخلع كتفه يوماً فتوقف عن العمل وكاد يفلس، فخطرت على باله فكرة استسخفها كل من عرضها عليه، ولكنه مع ذلك لم ييأس، وباع سيارته وبثمنها صنع من الألمونيوم (ماعوناً) طوله 10.7 متر، وارتفاعه 2.6 متر، واتساعه 2.4 متر، وعرض على متعهد شحن أن يضع فيها مئات القطع التي يريد إرسالها بدلا من التجزئة المرهقة. تردد المتعهد في البداية ولكنه أخيراً قبل الفكرة، وإذا بها فكرة (جهنمية) فعلا، من هنا انطلق السيد (ماكلين)، واقترض مبلغاً من المال وأخذ يصنع (الكونتينرات) ويبيعها على متعهدي الشحن، وعندما أخذت النقود تجري بين يديه أسس شركة كان لها السبق في الاستحواذ على السوق بهذه الطريقة الجديدة التي وفرت على المتعهدين والموانئ والزبائن الكثير من المال والجهد والوقت، وأصبح الشحن والتفريغ يجري بانتظام إيقاعي؛ (كونتينر) يرفع وآخر ينزل خلال دقائق قليلة، والسفينة تفرغ كامل حمولتها في يوم واحد بعدما كان في السابق يلزمها ما لا يقل عن أسبوعين، وبدلا من 200 عامل ليقوموا بذلك، اقتصر العمل على 20 شخصا فقط بما فيهم السائقون وعمال الآلات الرافعة.

وضرب (ماكلين) ضربته التي أوصلته إلى مرتبة أصحاب الملايين عندما خاطر واشترى 37 سفينة صدئة من مخلفات الحرب العالمية الثانية وأصلحها وهيأها لنقل البضائع، وبدأ أسطوله يجوب البحار والمحيطات متنقلا من قارة إلى قارة ومن ميناء إلى ميناء، وأصبحت البضائع تصل إلى العملاء (محفوظة مكفولة) إلى مقراتهم مهما كانوا في داخل البلاد، ونافس بذلك الخطوط الحديدية وسيارات النقل.

وتحركت رياح التغيير وتحولت إلى (إعصار)، ويقال إن هذا الابتكار قد نقل اقتصاديات العالم ما لا يقل عن مائة سنة للأمام، وأنه من عهد (كلومبس) لم يشهد العالم مثل هذه الطفرة.

ولي مع الكونتينرات تجربة غير مشرفة، وكنت أخجل من ذكرها سابقاً، ولكنني اليوم قررت أن أخلع (برقع الحيا)، ولا بأس من أن أذكرها لكم لتعرفوا فقط أن سيئ الحظ (يلاقي العظم في الكرشة) ـ مثلما يقولون ـ، ففي أحد الأيام اتصل بي أحد مقاولي الديكور وقال لي: لقد انفتحت ليلة القدر في وجهك يا مشعل. سألته وأنا أكاد يُغمى عليّ من شدة الفرحة، كيف؟!. قال: لقد أخذت مشروع فرش قصر كبير، وأردت أن أفيدك فإذا كان لديك أن تؤمن لي عدد 150 كرسي سفرة خلال أربعة أشهر فالفائدة مشتركة (ورحم الله من فاد واستفاد)، وأعطاني صورة من نموذج الكراسي، ولا أكذب عليكم أن عيني زغللت، وحجزت في أول طيارة ولم يردني غير مدينة (فلنسيا) في إسبانيا، وذهبت إلى مصنع للأثاث واتفقت معهم على التصنيع ودفعت الثمن، ورجعت سعيداً حالماً أمني نفسي (بالبغددة)، وما هي إلا ثلاثة أشهر وإذا بالبضاعة تصلني، ولم أفتح (الكونتينر) الكبير، إلا في فناء القصر، ويا ليتني لم أفتحه، فقد كانت صدمتي لا يعلمها إلا الله، فقد كانت جميع الكراسي صغيرة جداً، بل إنها بدون مبالغة (كراسي أطفال) ـ رغم أن التصميم هو التصميم الذي أعطيته لهم، وكانت خدعة كبيرة أضاعت نقودي، طبعاً رفض أن يأخذها مني المتعهد (ومعاه حق)، وأهديت منها عدّة كراسي لأطفال بعض أصدقائي وأقاربي الذين فرحوا بها، وما زالت البقية الباقية مكدّسة في أحد المخازن وقد أكلها السوس، ولم أسكت في حينها، فقد رفعت دعوى على المصنع وخسرتها، وجاء في حيثيات الحكم: أن المصنع قد أوفى بالشروط حسب النموذج، والمدعي لم يحدد أطوال وأحجام الكراسي، ودفعت أتعاب المحامي فوق خسارتي (والقانون لا يحمي المغفلين)، ويا ليتنا من حجنا سالمين.

[email protected]