مطبعة

TT

حضرت في أبوظبي ثلاثة أيام من المطالعات بعنوان «ديغول والعالم العربي» شارك فيها رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دو فيلبان ووزير خارجيتها السابق اوبير فيدرين وعدد من كبار المؤرخين الفرنسيين والعرب، ومنى جمال عبد الناصر ومنى مكرم عبيد. وإذا كان جميع من ذكرت استعماريين إمبرياليين، فإن منى عبد الناصر ومنى عبيد ليستا، على ما أعتقد، في حاجة إلى شهادة أحد. أصغيت إلى جميع المطالعات وأنا أفكر في مقال الكاتبة صافي ناز كاظم قبل فترة وهو مليء بالغضب على الذين لا يرون من الاستعمار الفرنسي، أو حملة نابوليون، سوى أنها حملت معها إلى مصر... مطبعة. والحقيقة التي لم تشر إليها الكاتبة أن نابوليون حمل معه المطبعة ليس من أجل مصر بل من أجل أن يطبع الجريدة الرسمية الفرنسية.

أمران، أولهما قاطع. وهو أن الدفاع عن الاستعمار أو تبريره، كفر. الثاني أن اجتزاء العلاقة المصرية ـ الفرنسية إلى مطبعة، تجاهل لمحطات كثيرة في تاريخ البلدين، لأن ما من دولة في العالم اهتمت بحضارة مصر القديمة مثل فرنسا، أولا وأخيرا. وترفع باريس في أهم وأجمل ساحاتها المسلة المصرية المذهبة التي أهداها محمد علي إلى فرنسا تقديرا لما أسداه العالم شامبوليون إلى مصر عندما فكك ألغاز اللغة الهيروغليفية وبدأ بذلك تاريخا جديدا لآثار مصر.

طبعا نستطيع أن نقول أيضا، وماذا في كل ما فعله شامبوليون أوائل القرن التاسع عشر، فقد كان من الممكن أن يحققه عالم آخر أوائل القرن العشرين، أو ماذا إذا خصص اللوفر منذ 1827 قاعتين لآثار مصر، أو ماذا إذا كان صانع قناة السويس فرنسيا، أو ماذا إذا كانت فرنسا قد دلت مصر على مصدر الثروة الثالث بعد السويس والآثار أي القطن، أو ماذا إذا ذهب كبار كتاب فرنسا إلى مصر وعادوا منها بأجمل أعمالهم، أو ماذا إذا أنشأت فرنسا في جامعاتها علما جديدا للتاريخ القديم هو «علم مصر» وكلفت به كبار الأكاديميين وعشاق العلوم المصرية، أو ماذا إذا كانت فرنسا أكبر من رعى استعادة مكتبة الإسكندرية، بسبب شغفها الثقافي بحضارات مصر، التي لم نتعرف إلى الآن إلا إلى القليل منها.

حقا، ماذا؟ الجواب لا شيء. لكن لا نابوليون نوى أن يختصر كل أحلامه ومطامعه بمطبعة ولا تراكمات العلاقة بين البلدين اقتصرت على بولاق. إنه تاريخ كثيف، فيه أسماء مثل غي مولييه، شريك إسرائيل في العدوان على السويس، وفيه عشرات الأسماء الأخرى التي أحبت مصر وساهمت في تقديمها إلى العالم. وكما أشارت منى عبد الناصر فقد جاء بعد غي مولييه رجل يدعى شارل ديغول. وللأسف لا يمكن أن نصرف التاريخ عنا بشطحة غضب شديدة الاختصار. فإن وجوهه كثيرة.