إسرائيل بمقياس الحق والعدل (قواعد لتفكير جديد صحيح)

TT

ألوف الأوراق كتبت عن (أسباب تخلف العرب والمسلمين) في العصر الحديث.. ومع تقديرنا الجم لما اكتشفه الباحثون والمفكرون من أسباب، فإن لنا منهجنا الخاص ها هنا، ذلك أننا نرى: أن السبب الأعظم والأعمق وراء تخلف العرب والمسلمين هو (طريقة التفكير الخاطئة): في قضاياهم ونهضتهم.. على أنه من التفكير الخاطئ أيضاً: إرسال الكلام إرسالا سبهللا في هذه القضية، أي بدون توضيح القضية وضبطها بأمثال ونماذج: تخرج التفكير من دائرة التجريد والإطلاق، وتدخله في دائرة التحديد والتعيين والبرهنة الوجودية أو الواقعية.

ولتكن البرهنة الواقعية المحددة، على التفكير الخاطئ ـ بحسبانه السبب الرئيسي في التخلف ـ لتكن مستمدة من (موضوع واقعي ماثل) وهو: القضية الفلسطينية مقترنة ـ طبعاً ـ بنقيضها القانوني والوجودي وهو: إسرائيل.

كيف فكر العرب في هذا الموضوع؟.. وكيف أداروا الصراع فيه؟.. منهم من أدار الصراع وفق (مفهوم قومي) لا يخلو من نظرة عنصرية، وهذا مفهوم إذ يتناقض مع حقيقة (النسب الإنساني العام) الذي يجمع الناس كافة في آدم، وفي أصل نشأته الطينية، فإنه يتناقض ـ في الوقت نفسه ـ مع (النسب السامي الخاص) الذي يجمع العرب الساميين، مع اليهود الساميين الحقيقيين (لا الذين ينتحلون السامية وهم الأكثر)، فالعرب الساميون واليهود الساميون ينحدرون من أب أعلى واحد وهو سام بن نوح. ومن ثم فإن المفهوم القومي العنصري للصراع ناشئ عن تفكير خاطئ في الأصل والمنبع.. ومنهم من أدار الصراع على أساس (طبقي) إلى درجة أن بعضهم نادى بأن حل الصراع العربي الإسرائيلي يكمن في (تحالف الطبقة العاملة في العالم العربي وإسرائيل) ضد الرأسمالية العربية والإسرائيلية!.. وهذا تفكير خاطئ بلا شك أولا: لأن الصراع الطبقي ذاته ثمرة تفكير خاطئ فالطبقة ذاتها ـ مهما كان اسمها ـ ليست معيارا صحيحا، وإنما المعيار الصحيح ـ للتفكير والفعل والقيمة ـ هو: الحق والعدل. ثانياً: لأن حزب العمل الإسرائيلي الذي حكم اسرائيل منذ نشأتها (والذي يرمز إلى الطبقة العاملة الاسرائيلية هو حزب محتل لأرض الغير بالقوة، فهو ـ من هنا ـ حزب ظالم، فكيف يُنادى بالحلف مع الظالمين؟.. إن (موضوع) الحلف ـ هنا ـ هو الظلم عينه!.. ومن العرب من تورط ـ وهو يفكر في الصراع ـ في معاداة اليهودية كدين، واليهود ـ بصفتهم هذه ـ: كرد فعل على غلو الغلاة من اليهود الصهيونيين.. وهذا تفكير خاطئ بلا ريب. أولا: ليس هناك (إجماع) يهودي على ما اقترفته الصهيونية من ظلم وعدوان في فلسطين، بل هناك شرائح يهودية واسعة تعارض هذا الظلم بشجاعة وإخلاص وعلو صوت: لا نجد له نظيرا عند عرب كثيرين (وسنعود إلى هذه النقطة في خواتيم المقال).. ثانيا: ان اليهودية بحسبانها دينا كتابيا لا تُعادى. فالإيمان بموسى وتوراته من أركان الإيمان لدى كل مسلم: لا يصح إيمانه إلا بهذا.. أما اليهود فهم أصناف: صنف ظالم باغ معاد وهم الصهيونيون.. والموقف من هؤلاء هو ذات الموقف من كل ظالم باغ حتى لو كان عربيا مسلما (وهذا هو دافعنا الحقيقي في رفع صوت الإدانة والتجريم ضد قادة العراق البائدين عندما احتلوا الكويت مثلا).. وصنف (محايد) من حيث انه غير مكترث بمسائل الأديان جميعا.. وصنف لا يزال هو الأكثر قربا إلى التوراة ومؤمني بني اسرائيل الأوائل ـ مع تخليط ملحوظ ـ. وبين هؤلاء وبين المسلمين (مواريث مشتركة) منها ـ على سبيل المثال ـ: ان المسلمين يقتدون بنبيهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في صيام العاشر من محرم من كل عام.. وأصل هذه السنة هو (الابتهاج) بنجاة موسى وقومه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طغيان فرعون، ففي مثل هذا اليوم قبل عشرات القرون: كانت نجاة بني اسرائيل من العذاب المهين. وإنما كان صوم المسلمين ـ واليهود ـ لهذا اليوم: شكرا لله جل ثناؤه على هذه النجاة المعجزة:«وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون».

وإذا كانت النماذج الثلاثة الآنفة تبرهن على (التفكير الخاطئ) في القضية التي بين أيدينا، فإن المطالبة بـ(البديل الصحيح الصائب في التفكير) ليست مشروعة فحسب، بل واجبة أيضا، فما هو البديل التفكيري الجديد الصائب؟.. من تعريفات التفكير الموضوعي السديد الرشيد: الالتزام المطرد ـ في كل الأحوال ـ بقواعد ثابتة مصونة من اختراقات الأهواء الذاتية والايدلوجية والعنصرية والسياسية الخ، يندغم في هذا أن هذه القواعد يجب تطبيقها على كل من اقترف ظلما، ومارس باطلا بغض النظر عن دينه وجنسه ولونه ودرجة قربه من مصدر التقويم والحكم: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى». والقاعدتان الواجب التزامهما باطراد ـ في هذه القضية ـ هما: الحق والعدل اللذان لا يجادل في مبدئيتهما أحد، ولا المبطلون الظلمة أنفسهم. فالكون كله قائم على ميزان العدل والحق: «والسماء رفعها ووضع الميزان»، ومن هنا استمدت عبارة (العدل أساس الملك).. والأنبياء والرسل إنما بعثوا بالكتاب والميزان لتحقيق العدل والقسط: «لقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط».. والدساتير والقوانين إنما وضعها الناس ـ في الأصل ـ لإقامة العدل وصيانة الحقوق.. والقضاة ـ ومحاكمهم معهم ـ ليس لهم وظيفة إلا إظهار الحق ونصرة العدل.

هاتان قاعدتان ـ للتفكير الصحيح في هذه القضية ـ من حيث إنهما مطردتان، ومجمع عليهما وهما: الحق والعدل.

ولذا فهما صالحتان ـ كأدق ما يكون الصلاح ـ للتفكير في الصراع، وفي النظرة إلى إسرائيل بـ (مقياس الحق والعدل).

إن إسرائيل ظلمت الفلسطينيين ظلما مركبا: اعتدت عليهم، واحتلت أرضهم ودمرت عمرانهم. وشردتهم، وأذلتهم، وحاصرتهم وجوعتهم. ولم تزل تفعل ذلك عبر ستين عاما، وإلى يوم الناس هذا: فكيف يكون الموقف من هذا الظلم؟.. التفكير الصائب ـ المبني على قاعدتي الحق والعدل ـ يقول: إن الموافقة على هذه المظالم مشاركة فيها بكل توكيد، وان هذه المشاركة تحطيم متعمد لموازين الحق والعدل، كما يقول التفكير الصائب: إن مفهوم تجريم إسرائيل بموجب هذا الفعل، إنما هو مفهوم يعتمد على مقياس الحق والعدل، لا على مقاييس قومية عنصرية، أو ايدلوجية، أو مزايدات ومتاجرات سياسية وإعلامية.

ثم انه من الخطأ الجسيم في التفكير: الظن بأن مظالم الصهيونيين منحصرة في الشأن الفلسطيني.. فهم الذين صكوا مقولة (ان الإسلام هو العدو البديل).. وانه يجب إيجاد (اجماع اقليمي ودولي) لمواجهة المخاطر الإسلامية. ولقد وكدت هذه المفاهيم تسيبي ليفني ـ وزيرة خارجية إسرائيل ـ في نيويورك ـ منذ أيام ـ حيث حذرت من خطر المساجد والمدارس في العالم العربي: كمصدر للثقافات المعادية! وحيث دعت الزعماء العرب إلى التعاون مع إسرائيل في مواجهة هذه المخاطر!.. ومن قبل حذر شمعون بيريز من الاسلام السعودي والنفط السعودي فقال ـ في مؤتمر الاقتصاد الأخضر في القدس (ونشرت صحيفة هاارتس اقواله بتاريخ 6/11/2007).. قال: «ليس لدى العالم عدو أكبر من النفط. فأولا هو يلوث الأرض بالفعل. والأمر الآخر: ان نفط السعودية يمول الإرهاب العالمي. والملك السعودي عبد الله يقول إنه يحارب الارهاب ولكنه يموله ويساعده أيضا.. والامر الثالث هو ان النفط يهدم الديمقراطية لأن من لديه نفط ليس بحاجة الى الديمقراطية.. وأنا اعتقد أننا جميعا متفقون على انه من الأفضل لنا ان نكون متعلقين بالشمس على ان نكون متعلقين بنفط السعودية. فالشمس أبدية وديمقراطية وودية أكثر.. ثم انظروا الى مستقبل السعودية عندما تنخفض اسعار النفط من 93 دولارا الى 40 دولارا. عندئذ ستكون سعودية أخرى».. والعبارة الأخيرة تعبر عن أمنية مريضة مشحونة بالحقد والشماتة.

بقيت ثنتان:

الاولى: ان المواقف المنحازة الى (الظلم الاسرائيلي)، إذ تدل على خطأ في التفكير ـ بمقياس الحق والعدل ـ فإنها تدل ـ كذلك ـ على فقدان الادراك الموضوعي لـ (المتغيرات العميقة في المجتمع اليهودي العالمي) الذي تتزايد قناعاته بأن السلوك الصهيوني الظلوم في فلسطين وغيرها: تسبب في جنايات هائلة على اليهود في العالم، وان هذه الجنايات بلغت حدا يهدد الوجود اليهودي في العالم بما لا قبل لليهود باحتماله.. ولم تعد هذه القناعات اليهودية حبيسة الصدور، بل تبدت في مواقف عملية عديدة فكرية وسياسية وتنظيمية. ففي امريكا وجه يهود كثر مذكرة قوية الى الرئيس الامريكي جورج بوش يطالبونه فيها بألا يصف اسرائيل بـ (الدولة اليهودية) لأن الصهيونية لا تمثل اليهود جميعا.. وفي هذه الايام تكونت ـ في أوروبا وأمريكا ـ (الجبهة العالمية لليهود المعادين للصهيونية) لتعلن براءة يهود العالم من جرائم الصهيونية ومظالمها.

الثانية: انه من المفارقات الحادة: ان اقواما منا رفعوا اصواتهم، الى درجة الاصابة بـ (الذبحة الحلقية) ضد الذين يستغلون الاسلام سياسيا لاغراض تتناقض مع جوهره (ونحن معهم في الاحتجاج)، بيد ان هؤلاء يصمتون الى درجة (البكم) عن الاستغلال السياسي الصهيوني للدين اليهودي، وهو استغلال له سوابق قديمة ادانها القرآن: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون».