كيف يمكن تمهيد الساحة الاقتصادية؟

TT

من المنتظر أن يحمل الرئيس المنتخب، باراك أوباما، قريباً أعباء مهمة غير عادية تتمثل في إنقاذ الرأسمالية من تجاوزاتها، وهي ذات المهمة التي واجهها فرانكلين د. روزفلت منذ 76 عاماً. حتى هذه اللحظة، عمد صانعو السياسات إلى تطبيق قواعد الإسعافات الأولية في التعامل مع الأزمة ـ من توفير ضاغط لوقف النزيف ثم التدخل بجراحة راديكالية ـ ومن أجل الإبقاء على النظام المالي على قيد الحياة. والملاحظ أن إجراءات ضخ رأس المال والإعانات الموجهة لإنقاذ المؤسسات المالية والشركات وعمليات الاندماج الهائلة وتوفير ضمانات حكومية بمستويات لم يكن لأحد أن يتخيلها ـ جميعها تمت المطالبة بها وتأييدها من قبل مسؤولين ومديرين تنفيذيين بشركات ظلوا حتى اللحظة الأخيرة قبل وقوع الأزمة معارضين لأي مشاركة حكومية في السوق. ولكن دعونا ننحي جانباً الآن التحول الأيديولوجي الذي عايناه مؤخراً ولننظر إلى الصورة الأكبر، حينئذ سيتضح لنا أن قواعد الرأسمالية الحديثة جرت كتابتها من جديد أمام أعيننا.

من ناحيتهم، يتحتم على فريق العامل المعاون للرئيس الجديد السعي لتناول الأسباب الجذرية التي دفعتنا إلى شفا هذه الهاوية الاقتصادية. لقد نددنا جميعاً بالإفراط الشديد في إجراءات الرفع المالي، والفشل في تنظيم المشتقات، وسيل عمليات الاقتراض التي تنطوي على مخاطرة بالغة والمبالغة في رواتب ومكافآت الرؤساء التنفيذيين للشركات. بيد أن كل هذه العناصر ليست سوى أعراض لثلاثة مشكلات هيكلية أعمق تستلزم قدر أكبر من الاهتمام: المفاهيم الخاطئة بشأن حقيقة ما تعنيه «السوق الحرة»، استمرار انهيار حوكمة الشركات والاعتماد على إطار عمل فيدرالي تنظيمي للشؤون المالية عفا عليه الدهر ويفتقر إلى التناغم.

أولاً: علينا أن نتصدى للمفهوم الخطأ الشائع حول ما يشكل «سوقاً حرة»، ذلك أنه على امتداد الجزء الأكبر من الأعوام الـ30 السابقة، سقط الكثير من الأميركيين ضحية لأيديولوجية أن السوق الحرة تتطلب القضاء شبه الكامل على التنظيمات التي تحكم عمل المصارف والمؤسسات المالية الأخرى وامتناع الحكومة عن التدخل بها. وداخل الأوساط المصرفية والمالية، ساد شعار «باستطاعتنا تنظيم أنفسنا». أما الذين رفعوا منا رايات التحذير فقد تعرضوا للاستهزاء بهم باعتبارهم فشلوا في تفهم، بل والإيمان بأهمية «السوق».

خلال فترة عملي كنائب عام لولاية نيويورك، سعيت أنا وزملائي لمطالبة المحللين المعنيين بمجال الاستثمار المصرفي بإمداد عملائهم بتوصيات غير منحازة، تخلو من أية تعارضات هيكلية. إلا أن الأصوات القوية المعبرة عن مصالح كبرى اتهمتنا بدس أنوفنا في شؤون السوق.

وعندما حذر مكتبي، إلى جانب وزارة العدل، من أن بعض صفقات إعادة التأمين التي أجرتها أميريكان إنترناشونال جروب لم تكن سوى محاولات لخلق انطباع زائف بوجود رؤوس أموال أكبر بميزانية الشركة، تعرضنا للسخرية لمهاجمتنا واحدة من أكبر شركات التأمين على مستوى البلاد، والتي لا بد أنها تدرك جيداً كيف توازن بين المخاطر والأرباح.

وعندما سعى النواب العموميون لكافة الولايات الخمسين للتحقيق بشأن عمليات الإقراض التي تنطوي على مخاطرة بالغة، بناءً على الاعتقاد بأن بعض ممارسات الإقراض سامة، تعرضنا للإعاقة من جانب تحالف مؤلف من المصارف الكبرى وإدارة بوش، والتي لجأت إلى قانون نادراً ما يتم استخدامه، يقضي على قدرة الدولة على التحقيق بهذا الشأن. وادعت الإدارة أن الوضع تحت السيطرة وأن التحقيق الذي نطالب بإجرائه لا ضرورة له.

ومراراً وتكراراً، تم إخبار الأفراد الذين سعوا لفرض القواعد الأساسية التي من شأنها مساعدة السوق على البقاء، سواء على مستوى الولايات أو داخل الكونغرس أو لجنة الأوراق المالية والبورصة في ظل إدارة بيل دونالدسون، أن «اليد الخفية» للسوق والتنظيم الذاتي بمقدورهما الاضطلاع بالمهمة بمفردهما.

في المقابل، فإنه على أرض الواقع تدفع المنافسة غير الخاضعة لتنظيمات سلوك الشركات ودرجة إقدامها على خوض المخاطرة إلى مستويات غير مقبولة. وكانت تلك ببساطة واحدة من السبل التي يسعى بعض المشاركين في السوق من خلالها إلى كسب ميزة تنافسية. وقد أشار أحد المحامين عن شركة واجهت اتهامات بارتكاب تجاوزات خلال اجتماع عُقد في مكتبي (والمثير أن عبارته تلك كان من المفترض أنها دفاع عن الشركة)، إلى أن: «أنتم على حق بشأن سلوكنا، لكننا لسنا بنفس القدر من السوء الذي عليه منافسونا».

في واقع الأمر، لم يتم قط حل مشكلة كبرى تتعلق بالسوق من خلال التنظيم الذاتي، وذلك لأن السلوك الفردي التنافسي لا يأبه بالسوق ككل. إن العناصر الفردية لا تهتم سوى بتقديم مستوى أفضل من الأداء عن المنافسين. وللتأكد من صحة ذلك، يكفينا النظر إلى الفقاعات الكبرى والأزمات التي عصفت بالسوق. إن فضيحة شركة إنرون والفضائح الأخرى المتعلقة بالإقراض المنطوي على مخاطرة شديدة تعد جميعها أمثلة كلاسيكية على الحقيقة المؤلمة المتمثلة في أن الجشع، وليس التنظيم الذاتي، هو الذي يسود عندما يتم إطلاق العنان للأفراد والمؤسسات للتصرف كيفما يحلو لهم.

إن من يتفهمون الاقتصاد حقاً، مثل آدم سميث، لا يدعون قط إلى تغييب المشاركة الحكومية، فلا يمكن للسوق أن يوجد داخل إطار من الفراغ، وإنما يشكل السوق نتاجاً لقوانين وقواعد. ويحتاج السوق إلى توافر الشفافية ومتطلبات محددة مرتبطة برأس المال والالتزام بالواجبات الائتمانية. أم البديل فهو الفوضى التي نعاينها حالياً.

من بين الميزات الكبرى التي تمتعت بها أسواق رأس المال الأميركية على مدار عقود عدة انتشار الاعتقاد ـ على المستوى العالمي ـ بأن الإقرارات التي تقدمها العناصر المشاركة بالسوق تتميز بالنزاهة، وذلك لأنه كان من المعتقد أن إطار العمل الذي تم خلاله وضع هذه الإقرارات يوفر رقابة حقيقية. بيد أنه كما نعلم جميعاً فإن القوانين التي تتطلب هذه النزاهة لا معنى لها بدون وجود حكومة ملتزمة بتطبيقها.

ثانياً: أثبت نظام حوكمة الشركات لدينا فشله. وعليه، أصبحنا بحاجة إلى إعادة تفحص كل حلقة في السلسلة الخاصة به. والواضح أن مجالس الإدارة واللجان المعنية بالتعويضات والتدقيق المالي، علاوة على المحامين والمعنيين بمجال الاستثمار المصرفي والمدققين الماليين والذين تتمثل مهمتهم في خلق انطباع بأن هناك التزاماً بالقانون، بل وحاملي الأسهم أنفسهم ـ تخلوا جميعاً عن مسؤولياتهم.

وعليه، يتعين على حملة الأسهم من المؤسسات، خاصة صناديق الاستثمار والأخرى الخاصة بالمعاشات ومؤسسات الوقف، المشاركة مجدداً في حوكمة الشركات. يذكر أنه على مدار العقد الماضي، تمثل التحدي الوحيد في مواجهة سوء إدارة الشركات والاستراتيجيات الرديئة التي تنتهجها الشركات في شركات الأسهم الخاصة وصناديق التحوط النشطة. وكانت تلك الشركات من بين الكيانات القليلة التي تمثل حاملي أسهم أو مصادر لرأس المال التي أبدت استعدادها لشراء وإصلاح هياكل الشركات. لذا، لا ينبغي الشعور بالدهشة إزاء مسألة أن عالم الشركات شعر بالريبة إزاء تلك المؤسسات ـ خاصة صناديق التحوط التي تمارس البيع على المكشوف، التي كانت من الأصوات النادرة التي دقت أجراس الخطر.

علاوة على ذلك، قصرت مجالس الإدارات في عملها على مدار العقد السابق، ذلك أنها لم تكتف فحسب بعدم تقديم إجابات، وإنما غالباً ما فشلت أيضاً في طرح الأسئلة المناسبة. إضافة إلى ذلك، تنبغي إعادة التفكير بشكل كامل في دور لجان التعويض. وعلى هذه اللجان ومجالس الإدارات إقرار معايير صارمة لمسألة التعويضات.

وأخيراً، علينا إجراء إصلاحات كاملة لإطار العمل التنظيمي المالي.

ودعونا ننحي جانباً التردد الأيديولوجي الذي أعاق منذ أمد بعيد عمل الوكالات التنظيمية. والواضح أن إطار العمل التنظيمي المشرذم الخاص بالخدمات المالية لم يعد مناسباً بأي حال من الأحوال لاحتياجات نظام مالي عالمي مندمج ومتداخل، حيث باتت التقسيمات الماضية الخاصة بالصرافة التجارية مقابل الاستثمار المصرفي مقابل التأمين مقابل صناديق التحوط مقابل الأسهم الخاصة، غير ذات معنى حقيقي. ومع ذلك، ما تزال هذه التقسيمات والقوالب القديمة تحدد الأسلوب الذي يجري من خلاله النظر إلى وتنظيم المؤسسات. وعليه، لم يكن مثيراً للدهشة أن تعثر رؤوس الأموال على ثغرات داخل إطار العمل التنظيمي. لكننا أخفقنا في الاستجابة لذلك من خلال إقرار إطار عمل تنظيمي مرن بدرجة كافية لسد تلك الثغرات.

في الواقع، إننا لسنا بحاجة إلى المزيد من القطاعات المشرذمة في إطار التنظيمات الفيدرالية من أجل التعامل مع صناديق التحوط أو صناديق الثروة السيادية أو المشتقات، وإنما نحن بحاجة إلى اتباع توجه موحد لتناول القضايا الجذرية: ما هي أنماط الرفع المالي التي نرغب في التساهل حيالها، كيف يمكننا قياس مستوى المخاطرة، وحجم الإفصاح الذي ينبغي أن توفره المنتجات التجارية. ولا يمكننا النجاة من الأزمة إذا ما مضينا قدماً في الاعتماد على النظام الحالي المؤلف من: لجنة الأوراق المالية والبورصة، مكتب مراقبة العملة، الشركة الفيدرالية لتأمين الودائع، مصرف الاحتياطي الفيدرالي، مكتب المراقبة الاقتصادية وما إلى غير ذلك. وعلينا أن نسعى لإيجاد هيكل جديد أفضل وأكثر كفاءة.

وقد شرعنا بالفعل في صياغة مثل هذا النموذج الموحد في نيويورك، مثلما فعل وزير الخزانة، هنري م. بولسون، في واشنطن العام السابق. لكن من الضروري أن ننهي المهمة بسرعة، فمع إغراقنا للسوق بالنقد واستحواذ الحكومة على حصة كبيرة من أكبر مؤسساتنا المالية، بات لزاماً علينا صياغة قواعد يجري تطبيقها على كافة المشاركين في السوق.

وبصورة عامة، هناك ثلاثة قواعد كبرى ينبغي أن تحكم الإجراءات الحكومية في إطار الهيكل الجديد، أولها: أننا بحاجة إلى نظام سيطرة أفضل على المخاطرة المنظمة، حيث أن السلطة الفيدرالية التنظيمية المشرذمة الحالية، واستمرار وجود صفقات تتم خارج الميزانية بالنسبة للكيانات المالية (حتى خلال حقبة ما بعد انهيار شركة إنرون) والفشل في إخضاع العناصر الاقتصادية الكبرى لأي رقابة حكومية، كل ذلك يعني أنه ليس هناك أي شخص باستطاعته تفهم المخاطرة الكاملة التي تجابه النظام المالي.

ثانيا: ينبغي أن يتم توفير مستوى مناسب من الحماية ومعلومات دقيقة للمستثمرين. ويجب أن تتعامل الشركات بشفافية مع كل من المستثمرين الأفراد والجهات التنظيمية الحكومية.

ثالثاً: مثلما أوضح إيريك ر. دينالو، المراقب بقسم شؤون التأمين بولاية نيويورك، يتعين علينا التراجع عن البيئة الحالية التي أصبحت الحكومة فيها ضامنة لكافة المخاطر الكبرى. إن ما يطلق عليه المخاطرة الأخلاقية سيساعد في تقليص المخاطرة داخل السوق، وهذا أيضاً سيخلف تداعيات سلبية طويلة الأمد على تدفقات رؤوس الأموال. فقط عندما تتحمل العناصر الخاصة المخاطر الحقيقية التي تخوضها ستتمكن السوق حينئذ من العمل على الوجه المناسب. أما الآن، فنحن على أعتاب تأميم المخاطر.

وبينما تجري إعادة صياغة قواعد الرأسمالية الحديثة على مدار العام القادم، يجب أن نضمن أن يتنافس المستفيدون من تدفقات النقد الهائلة التي يجري نشرها بمختلف جنبات الاقتصاد الأميركي في إطار نظام من القواعد يخلق سوقاً حقيقية ـ تقوم على تنظيمات سليمة وحوكمة نشطة للشركات والشفافية.

ورغم أن الأخطاء التي اقترفتها في حياتي الشخصية تحول دون مشاركتي في هذه القضايا على النحو الذي كنت أقوم به في الماضي، أتمنى وأتوقع أن يبدي الرئيس أوباما وإدارته الجديدة القوة والحكمة الكافيتين لتحقيق ما قام به فرانكلين روزفلت من قبل.

* حاكم ولاية نيويورك خلال الفترة 2007-2008، وشغل منصب النائب العام بالولاية بين عامي 1999 و2006.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»