آفة الفكر التسييس

TT

إذا كانت آفة العلم النسيان كما يقولون، فلا شك عندي في أن آفة الفكر التسييس، وذلك حين تُختزل الفكرة أو العقيدة أو المبدأ، إلى تابع أو حتى خادم لأغراض لا علاقة لها بالفكرة ومضمونها الشامل، أو العقيدة، وقيمها الروحية الخالصة. هكذا تم تحجيم واختزال الشعور القومي الطبيعي، إلى إيديولوجيا قوموية (البعث مثلاً)، تنفي وتعزل وتحدد الصح من الخطأ، وتقرر من هو وطني، ومن هو من الخائنين، في صراع مع الآخر، الحقيقي والمفترض والمتخيل، بحيث يبدأ هذا الصراع فكرياً وينتهي دموياً. وهكذا تحولت الفلسفة الهيغلية والنيتشوية مثلاً إلى ايديولوجيات تبرر العنف والدم والتفوق العرقي، كما فعلت النازية مثلاً، حين استعارت الفكرة الهيغلية عن الدولة، والفكرة النيتشوية عن الإنسان الأعلى أو الخارق (السوبرمان)، بالإضافة إلى أفكار أخرى، مزجتها حسب رؤيتها وأهدافها، وصنعت منها ايديولوجيا عنصرية مناسبة للغاية المرادة، ورافضة بالتالي كل ما عداها، فكان لا بد أن تنتهي إلى ممارسة العنف على نطاق واسع، وإن تعارض ذلك مع المضامين الفلسفية العميقة للأفكار التي تحولت إلى ضحية الأدلجة في النهاية. وهذا هو ما حدث أيضاً للفلسفة الماركسية مثلاً، التي تحولت إلى أيديولوجيا شيوعية لم تلبث أن سقطت، كما سقطت من قبلها أيديولوجيات شمولية أخرى، وكما ستسقط كل ايديولوجيا شمولية تدعي ملكية الحقيقة. ومما يؤثر في هذا المجال، مقولة كارل ماركس، في أخريات حياته، في التعليق على ممارسات الشيوعيين: «إذا كانت هذه هي الماركسية، فأنا لست ماركسياً»، وأنا أجزم أن هذا هو ما يمكن أن يقوله هيغل ونيتشه وغيرهم.

ذات ما قيل سابقاً ينطبق على أي فكرة أو عقيدة أو دعوة لأنسنة العلاقات البشرية، حين يدخل التسييس، ولا أقول السياسة، في الأمر، فتموت الفكرة أو الدعوة في النهاية نتيجة تسييسها، ومحاولة استغلالها لأغراض لا علاقة لها بذات الفكرة. فالسياسة علم وفن له أصوله ومجاله، أما التسييس فهو تحويل ما لا علاقة له بالسياسة، إلى أداة من أدوات السياسة، وفي ذلك خطر عظيم في النهاية، حتى وإن كان يبدو مفيداً وناجعاً للوهلة الأولى. من هذه الأفكار والدعوات، فكرة الحوار كأساس للتواصل والتعامل بين بني آدم وحواء. ففي ظني، وبعض الظن إثم ولكن بعضه الآخر حق، أن الحوار، مهما كان نوعه، هو خطوة حضارية بكل ما في الكلمة من معنى. فمجرد اللجوء إلى الحوار، ومفهوم الحوار في العلاقات الإنسانية، يعني الكثير من المعاني المسكوت عنها، والتي تحتاج إلى تحليل من أجل إظهارها. فمن ناحية، فإن الحوار هو نقيض الصراع، ونبذ الصراع بذاته في العلاقات الإنسانية، هو مؤشر تحضر وحضارة، وهو ما يفرق بين الإنسان، بصفته هذه، وبين البهيمة التي يُشكل الصراع جوهر حياتها. ومن ناحية أخرى، فإن الحوار يعني ضمناً اعترافا بحق الآخر في الوجود والتعبير عن هذا الوجود بمختلف الأشكال، بمثل الاعتراف بحق الذات في ذلك. فما يفرق بين المجتمعات الإنسانية من حيث موقعها على السلم الحضاري، هو اعترافها بحق الوجود والتعبير عن الذات لبعضها البعض، ومن ثم التعايش وفق هذا الإطار، وليس وفق قاعدة أن وجودي لا يتحقق إلا بإلغاء وجودك، أو أن مكسبك هو بالضرورة خسارة لي أو العكس. كما أن الحوار، والإيمان الحق بمبدأ الحوار، يعني اعترافاً بمبدأ المساواة بين المتحاورين فيما يتعلق بموضوع الحوار، فلا حوار بين غير متساوين، ومجرد الاعتراف المتبادل بين الفرقاء بالحوار منهجاً وسبيلاً، هو اعتراف ضمني بالمساواة بين هؤلاء الفرقاء. أما أهم ما هو مسكوت عنه في مسألة الحوار، فهو أن اختياره فلسفة حياة يعني أن لا حقيقة مطلقة، أو لنقل إنه نوع من اتفاق ضمني على أن الإيمان بحقيقة مطلقة معينة حق لكل أحد وأي أحد، ولكن فرضها على الجميع بصفتها الحقيقة المطلقة الوحيدة، ليست من حق أحد وكل أحد.

من هذه الزاوية أقرأ فكرة الحوار بين الأديان التي أطلقها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، والتي تجسدت مؤسسة في طور النمو، من خلال المؤتمر الأخير بهذا الشأن في الأمم المتحدة. فالأديان، بصفتها مؤسسات اجتماعية، لا قيم روحية خالصة فقط، كانت دائماً مثار نزاع

وصراع بين الأمم والشعوب والدول والجماعات داخل الدول نفسها، خاصة إذا كانت الايديولوجيا الدينية هي المهيمنة على مختلف جوانب الحياة في المجتمع والدولة، كما كان الحال في أوروبا القروسطية، وكما هو الحال في أغلب دول المسلمين في مرحلتها القروسطية المعاصرة، رغم المفارقة في اجتماع القروسطية والمعاصرة. فالدين، بصفته المؤسسية والاجتماعية، التي لا تقبل التعددية إلا مجبرة، كما هو الحال في الوضع الأوروبي المعاصر، نجده يقف وراء كثير من الصراعات بين بني الإنسان في مختلف مراحل التاريخ. نعم، قد يكون الدين مجرد غطاء أيديولوجي لصراعات تقف أسباب اقتصادية أو سياسية وراء انفجارها، ولكن الدين يبقى هو المستخدم في التحريض والتجييش، وإن أخفت عباءته مختلف أسباب الصراع. وكي لا يكون هنالك تجن على الدين كمؤسسة اجتماعية، يمكن القول إن مختلف أنواع العقائد، الديني منها وغير الديني، تتحول إلى مثير للصراعات بين البشر عندما تتحول إلى أيديولوجيات مغلقة، وتتجسد في مؤسسات يقف على رأسها أفراد وجماعات لهم في هذه المؤسسات، مثل عصا موسى، مآرب أخرى. أفراد وجماعات لا تعترف إلا بنفسها وبحقيقتها، بحيث تمتزج الحقيقة بالمآرب الأخرى هنا، وبالتالي فإن وجودها يستلزم نفي وجود الآخرين، وهنا يكمن جذر من جذور العنف في العلاقات بين البشر.

أقول هذا الكلام بمناسبة تلك الضجة التي أُثيرت حول مؤتمر حوار الأديان في منطقتنا العربية خاصة، حيث قال البعض إنه مجرد غطاء لدفع عملية التطبيع مع إسرائيل، والدليل على ذلك هو حضور شيمون بيريس وتسيبي ليفني المؤتمر، ناهيك من الشخصيات اليهودية غير الإسرائيلية الأخرى، متناسين أو غافلين أو متجاهلين أو جاهلين الجوانب الأخرى لمبدأ الحوار، وقيمته الإنسانية والحضارية، بعيداً عن حكاية التطبيع، و«العقدة الإسرائيلية»، التي جعلها البعض منا عائقاً أمام أي فعل إيجابي يخدم البشرية في المدى الطويل، ويدفعنا إلى الإسهام في بعض الهم الإنساني، ويحولنا بالتالي إلى أسرى لـ«البعبع» الإسرائيلي، و«أمنا الغولة»، وأقصد بذلك الصهيونية، وأحياناً ذات اليهودية. ولا شك أن المستفيد الأول من هذا الهجاس العربي تجاه إسرائيل، هو إسرائيل ذاتها، التي ستنظر بعين الرضى إلى مثل هذا السلوك والذهنية العليلة التي تقف وراءه، والتي تُظهر العرب خاصة، والمسلمين عامة، على أنهم عبء على حضارة الإنسان، ومجموعة من البشر لا يعنيها هم هذا الإنسان بصفته إنساناً، بل هم جماعة لها همها الخاص، وهاجسها الأخص، أما هم الإنسان، فليذهب إلى الجحيم. من خلال هذه الصورة، التي نرسمها نحن لأنفسنا حين نغرق في هواجسنا الخاصة، ونسييس كل فعل وجهد انطلاقاً من العقدة الإسرائيلية تحديداً، نبرر للعالم بأنفسنا كل ما يُفعل بنا، طالما رفضنا الانتماء لمجتمع الإنسان، والإسهام في تحسبن نوعية حياة هذا الإنسان.

نعم قد لا يكون لدعوة الحوار بين البشر، أو أي فكرة حضارية أخرى، مردود إيجابي سريع، وقد لا يمارسه الداعي إليه بشكل مُرض تماماً، وقد تستغله إسرائيل وآخرون لغايات لا علاقة لها بالمضمون الإنساني والحضاري للفكرة، كما هو الحال مع أفكار كبرى في التاريخ، كل ذلك وارد، ولكن يجب أن نعلم أن الأفكار العظيمة قد استُغلت على مر التاريخ، ولكن استغلالها ينتهي مهما بدا طويلاً، وتنتصر الفكرة في النهاية. هوت النازية، وهوت الفاشية، وهوت الشيوعية، وهوت القوموية، وها هي «الإسلاموية» في طريقها إلى الإندراس، ولكن بقيت الأفكار العظيمة المستلبة من قبل هذه الايديولوجيات صامدة وفاعلة في مصير الإنسان ورقيه على سلم الإنسانية في النهاية، مما يُذكرنا بقول الحق: «فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال» (الرعد، 17). ويقول المهاتما غاندي: «عندما ينتابني اليأس، وأشعر بانسداد الطريق أمامي، أتذكر أنه طول التاريخ، كان الحق هو المنتصر في النهاية».

«وإذا كان الله سبحانه وتعالى»، يقول فرح أنطون، «يُشرق بشمسه على الصالحين والأشرار، فيجب على الإنسان أن يتشبه بذلك، ولا يُضيق على غيره، لكون اعتقاده مُخالفاً لمعتقده». ولكن للأسف هنالك من لو كان الأمر بيده، لحجب الشمس عمن يخالفه، بل وحبس الهواء عن المتنفسين، ولكن حمداً لله، فشمس الرب وهواءه لا يتحكم فيهما إلا الرب، وهو أرحم بخلقه من خلقه ببعضهم البعض.