«ديربان» الأفريقية تتحدى الرئيس أوباما

TT

يسود حاليا مناخ يكاد يقول، إن الوضع السياسي في العام المقبل، سيكون مختلفا جدا عن الوضع السياسي في العام الذي مضى. وقد ساعد وزير الخارجية البريطاني ميليباند بعد زيارته إلى دمشق وبيروت، في إشاعة هذا الانطباع، كما أن إسرائيل ورئيسها شمعون بيريس شريك في إشاعة الانطباع نفسه، من خلال تركيزه المتواصل على مبادرة السلام العربية، والإيحاء بأن مناخا جديدا سيسود في المنطقة حين تبدأ مفاوضات عربية ـ إسرائيلية تستظل بهذه المبادرة. وقد ذهب بيريس إلى حد القول بأن الرئيس الجديد باراك اوباما، أبدى إعجابه بالمبادرة العربية بعد أن أطلعه (أي بيريس) عليها.

ويستند المروجون لإشاعة هذا المناخ السياسي، إلى التغيرات الضخمة التي حدثت بشكل متوال، وفي مقدمتها الحديث عن ضعف موقع الولايات المتحدة الأميركية العسكري في كل من العراق وأفغانستان. وفي ختامها الاهتمام المتواتر بالأزمة المالية التي هزت العالم ونظامه الاقتصادي الرأسمالي بالذات. وقد ترافقت هذه التغيرات الضخمة مع سقوط الحزب الجمهوري في الانتخابات الأميركية، ونجاح الحزب الديمقراطي بنسبة تسمح له بالسيطرة على الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ)، إضافة إلى قدوم رئيس جديد إلى البيت الأبيض، يمثل وجوده نقلة نوعية، لكونه رجلا أسود يدخل إلى البيت الأبيض لأول مرة. وبسبب ذلك كله أصبح الحديث عن المناخ السياسي الجديد الذي سيسود المنطقة العربية مرتبطا بالرئيس الأميركي (الأسود)، الذي سيبلور سياسة جديدة، ويتولى عملية التغيير المنشودة، فهل لهذا التوقع السياسي أساس من الصحة؟

لا نريد هنا أن ندخل في باب التخمين. فهناك من يؤمن بهذا الرأي، وهناك من يؤمن بعكسه. إنما نريد أن نشير إلى صدفة سياسية من شأنها أن ترشدنا إلى النتيجة بشكل أسرع من أية صدفة أخرى، وأعني بها وقائع صدفة مؤتمر «ديربان» الثاني الذي سينعقد في شهر ابريل (نيسان) من العام المقبل في مدينة جنيف، وعندما يكون الرئيس اوباما قد أصبح الرئيس الفعلي لبلده. فما هي العلاقة بين الرئيس الأميركي وبين مؤتمر ديربان الجديد؟

لنستذكر معا قصة مؤتمر ديربان.

لقد انعقد المؤتمر الأول في 1/9/2001 في مدينة ديربان في جنوب افريقيا تحت رعاية الأمم المتحدة، على أنه مؤتمر شعبي ورسمي في آن، تحضره مؤسسات المجتمع المدني كما تحضره الدول والحكومات، وساد فيه تركيز البحث حول مسألتين: مسألة العنصرية، وبخاصة تلك التي تمارسها دولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ومسألة العبودية التي مارسها الرجل الأبيض (الأميركي) ضد الرجل الأسود (الأفريقي) على مدى مائتي عام. الفلسطينيون وأنصارهم طالبوا بمواجهة العنصرية الإسرائيلية وإدانتها، والأفارقة وأنصارهم طالبوا بالاعتذارعن مرحلة الرق والعبودية والاعتراف بأنها جريمة ضد الإنسانية. الإسرائيليون رفضوا الاتهام بالعنصرية، والأميركيون رفضوا الاعتذار عن مرحلة الرق وممارسة العبودية. ورغم تخفيف الصيغ المطروحة، بقي الاعتراض الإسرائيلي والأميركي قائما، وانسحبا من المؤتمر في يومه الثالث.

ومرة ثانية، وبعد سبع سنوات من الحدث، تتشارك إسرائيل مع الولايات المتحدة الآن، في إعلان معارضتهما للمؤتمر نفسه. يتغير العالم، وتنشب حروب، ويتم احتلال دول، ويتصاعد الحديث عن خسارة أميركا في العراق وأفغانستان، ويهتز العالم كله بسبب الأزمة المالية، ويبقى رغم ذلك ثابت واحد، هو الانسجام الإسرائيلي ـ الأميركي حول كل شيء، بما في ذلك الانسجام حول موقف من مؤتمر ما، ينعقد في مكان ما، اسمه مؤتمر ديربان. وقد جرت العادة تقليديا، أن تقوم الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في كل ما تطلب، أما هذه المرة فيمكن تطوير هذه القاعدة لتصبح في خدمة الطرفين في آن واحد، فرفض مؤتمر ديربان والتمرد على توصياته، هو رغبة أميركية مثلما هو رغبة إسرائيلية، وهو مصلحة أميركية قبل أن يكون مصلحة إسرائيلية. وقد حدث ذلك أمام أنظار الجميع قبل سبع سنوات، فما الذي يحدث بشأنه الآن؟

المشهد نفسه يتكرر. ففي الرابع من شهر ابريل الماضي، نشرت صحيفة هآرتس، أن إسرائيل والولايات المتحدة اتخذتا قرارا مشتركا بمقاطعة مؤتمر الأمم المتحدة الثاني لمكافحة العنصرية، والذي سيعقد في النصف الأول من عام 2009، وسيكون استمرارا لمؤتمر ديربان الذي انعقد عام 2001. وقالت هآرتس، إن الموضوع تم بحثه بين تسيبي ليفني وكوندوليزا رايس، من أجل إعلان بيان يركز على أن المؤتمر سيصبح مظاهرة للهجوم على إسرائيل، بحيث يمكن بعد ذلك مقاطعة المؤتمر، أو حضوره بعد الحصول على ضمانات.

وقد عادت تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل، لتؤكد هذا الموقف بنفسها، فأعلنت يوم 20/11/2008، في خطابها أمام مشاركي الجمعية العمومية لاتحاد الطوائف اليهودية في أميركا الشمالية، أن «إسرائيل لن تشارك في مؤتمر ديربان الثاني، ونحن ندعو الأسرة الدولية إلى عدم المشاركة في مؤتمر يسعى إلى إعطاء الشرعية للكراهية والتطرف تحت شعار مكافحة العنصرية». وقالت ليفني «إن إسرائيل لن تشارك في مؤتمر جنيف، ولن تمنحه الشرعية، طالما لم نضمن ألا يشكل الحدث منصة لنشاط لا سامي ومناهض لإسرائيل».

لقد صدر هذا الموقف الإسرائيلي، بالتناغم والتفاهم مع الإدارة الأميركية التي يتزعمها الرئيس جورج بوش، ولكن عندما يحين موعد تنفيذها، مع بدء أعمال المؤتمر الجديد، يكون البيت الأبيض قد أصبح في عهدة إدارة أميركية جديدة، يقف على رأسها الرئيس باراك أوباما. فكيف سيتصرف الرئيس أوباما تجاه هذا الأمر؟ هل سيوافق على قرار الإدارة السابقة، إدارة الرئيس جورج بوش، مع أن الحدث يبدأ ويتبلور في عهده؟ هل سيتخذ من الموضوع الفلسطيني موقفا بلورته وزيرة الخارجية القديمة، وتكون بذلك قد فرضت نفسها وسياستها على عهده وعلى سياسته؟ ثم هناك القضية الأهم، فمؤتمر ديربان الأول بحث قضية الرق والعبودية، وتوصياته لم تعجب حتى بعد تليينها، الإدارة الأميركية القائمة في حينه (إدارة كلينتون في أيامها الأخيرة)، فانسحبت هي وإسرائيل من المؤتمر احتجاجا. والآن .. هل سيقدم الرئيس الأميركي (الأسود) على تنفيذ قرار المقاطعة احتجاجا على قضية الرق التي تعنيه أكثر من غيره من الرؤساء؟ وهل سيرفض كما رفض أسلافه اعتذار الدول والحكومات عن سياسة الرق التي مورست بحق ملايين السود الذين انتخبوه؟

من المؤكد أن هذه المناسبة ستكون مؤشرا على نوعية القرارات السياسية الأولى التي سيتخذها الرئيس اوباما، ومؤشرا أيضا على صحة القول بأنه رجل «التغيير»، وهو الشعار الذي جعله أساسا لحملته الانتخابية.

لقد شكل مؤتمر ديربان الأول، نقلة نوعية في نمط التوصيات التي تصدر بمشاركة منظمات المجتمع المدني في العالم، ولكن ما هي إلا أيام حتى طغى الحدث الإرهابي (11/9/2001) في نيويورك وواشنطن، على توصيات المؤتمر بحيث لم يعد أحد يسمع بها. ولكن ها هو مؤتمر ديربان يشكل مرة أخرى منصة عالمية لاستكشاف معدن الرئاسة الأميركية الجديدة، وما إذا كانت مؤهلة للتبشير بمناخ سياسي جديد، أم أنها مجرد تكرار وصدى لأجواء سياسية تم اختبارها. أجواء سياسية تنشر من الإحباط مقدارا كافيا للقضاء على آمال إنسانية كثيرة وكبيرة.