أصل الحكاية ما تضحكش!

TT

ما يحدث في البحر الأحمر من قرصنة قبالة الشواطئ الصومالية، التي كان آخرها السطو على ناقلة البترول السعودية العملاقة، يأخذنا إلى تنويعات نجيب سرور على الأغنية الشعبية «البحر غضبان ما بيضحكش، أصل الحكاية ماتضحكش، البحر جرحه مابيدبلش، وجرحنا ولا عمره دبل». الإجرام الذي تقوم به العصابات التي تتبنى القرصنة كوسيلة ابتزاز مالي وسياسي، بالفعل ما يضحكش، لأن ذلك معناه أن البحر الأحمر برمته قد أصبح دولة فاشلة على حدود السعودية ومصر واليمن والسودان والأردن والصومال (ست دول عربية)، حسب تعريف الجامعة العربية.

باستثناء إسرائيل وإريتريا، كل دول حوض البحر الأحمر هي دول عربية، وشعار «البحر الأحمر بحيرة عربية» كان عنوانا لكل نقاشات الأمن القومي العربي في السابق واللاحق. لقد كانت السيطرة على باب المندب وعلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، غاية أساسية في الاستراتيجية العسكرية المصرية في حرب 1973، كما أنها كانت سببا من ضمن أسباب أخرى في حرب 1967، عندما قرر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قفل باب المندب على الملاحة العالمية، والإسرائيلية خصوصا. في هذه الحرب (1967) عندما احتلت إسرائيل سيناء، كان واحدا من أهم أهدافها هو السيطرة على جزر تيران وصنافير (جزر سعودية مؤجرة لمصر) بالقرب من شرم الشيخ وراس محمد، حتى تمنع المصريين من السيطرة على مضيق باب المندب. وفي البروتوكول العسكري لمعاهدة كامب ديفيد وضعت الجزيرتان ضمن المنطقة (ج) المدنية، التي لا يحق لمصر أي وجود عسكري فيها، حتى تضمن إسرائيل أن مصر لن تتحكم بهذه المنطقة الحيوية من البحر الأحمر. النقطة الأساسية هنا هي أن موقع البحر الأحمر من الأهمية الاستراتيجية بمكان تجعل من أي خلل في أمنه تهديدا للأمن القومي لست دول عربية «طويلة وعريضة» تطل عليه. ومن هنا أن تسيطر مجموعة من العصابات المسلحة على الجزء الجنوبي من البحر الأحمر يعني أن هذا البحر أصبح كدولة فاشلة يرتع فيها المجرمون والمهربون والإرهابيون، ويذكر بما قاله نجيب سرور (الحكاية ماتضحكش). ظني أن الشيوعي المصري، الذي انتقل إلى رحمة الله، لم يكن يتصور أن أشعاره في يوم من الأيام ستستخدم في مقال عن أمن البحار.

غياب أي تنسيق بحري ذي قيمة في أمن البحار Maritime Security بين هذه الدول العربية التي تطل على البحر الأحمر، هو بحد ذاته حكاية تدعو إلى العجب، خصوصا في ظل قلق الحكومات العربية الدائم والمتصاعد على الأمن القومي لبلادها وعن رغبتها في إدارة شؤون ومصالح هذه البلاد من دون تدخل أجنبي. ومن العجب أيضا أنه لا يوجد أسطول بحري عربي واحد (بالحجم الكبير الذي نتحدث فيه عن الأسطول الخامس الأميركي مثلا) يجوب مياه البحر الأحمر، الذي أصبح اليوم نقطة جذب للأساطيل الغربية والروسية والهندية، خصوصا إذا ما عرفنا أن أهل الخليج هم بحارة في الأصل. فسلطنة عمان مثلا، كانت إمبراطورية بحرية من عمان إلى زينجبار، وكانت تلك المياه التي يرتع فيها القراصنة اليوم مياها عمانية. البحار هي أشبه بالطرق السريعة على الأرض، لكننا لا نتحكم في هذه الطرق. نعرف أن مضيق هرمز مثلا هو عصب حركة ناقلات البترول في الخليج، ومع ذلك نجد أن منطقة الخليج تقع بين فكي البحرية الإيرانية والأسطول الخامس الأميركي المتمركز في البحرين، ما عدا ذلك لا توجد قوة بحرية عربية تذكر، كما أنه لا يوجد أي تنسيق عربي بين القوات البحرية الصغيرة الموجودة.

الأمل في اجتماع القاهرة للدول العربية المطلة على البحر الأحمر، هو أن يدرك المسؤولون المجتمعون هناك، أن هناك سيناريوهين لا ثالث لهما لمستقبل البحر الأحمر.. الأول، هو أن البحر الأحمر بحيرة عربية في المقام الأول وعلى الدول العربية المطلة عليه أن تتسلم زمام الأمور والأمن فيه. أما السيناريو الثاني، فهو أن يتم بحث مشروع تدويل مياه البحر الأحمر تحت مسمى «مكافحة القرصنة الصومالية». إذا ما نظرنا إلى البحر الأحمر بالمنظور نفسه الذي نتبناه حين نناقش قضايا الدول الفاشلة أو الدول التي في طريقها إلى الفشل، يمكننا القول بأنه، وباستثناء مصر والسعودية والأردن وإسرائيل، فإن البحر الأحمر محاط بدول فاشلة أو في طريقها إلى الفشل، قد تحول البحر برمته إلى بحيرة فاشلة تسيطر فيها القرصنة والإرهاب والإجرام. وإذا ما تحول البحر الأحمر إلى هذا السنياريو، وهو سيناريو ليس ببعيد، فمعنى ذلك أننا طواعية ندعو الدول البحرية الكبرى لإدارته.

العجز السياسي في الدول هو الذي يجلب التدخل الأجنبي. الضعف العربي في إثبات وجوده في مياه البحر الأحمر هو الذي سيحوله من مياه عربية إلى حالة الوصاية، إن لم تكن السيطرة الدولية الكاملة. وفي هذا، بكل تأكيد، خطر شديد على الأمن القومي العربي. أولى الدول العربية التي تتأثر بالقرصنة وباختلال أمن البحر الأحمر، هي مصر التي قد تفقد الكثير من عائدات قناة السويس إذا ما تجنبت السفن التجارية المرور بالبحر الأحمر، وقد يدعي الرسميون أن القرصنة في خليج عدن وقبالة الشواطئ الصومالية لن تؤثر على الملاحة في القناة، أو أن القراصنة لا يستطيعون التأثير في الملاحة الدولية، هذا كلام غير دقيق إذا ما أريد التعامل بجدية مع هذا الموقف.

أمن المياه العربية يحتاج من الدول المطلة على البحر الأحمر وعلى الخليج وكذلك على البحر الأبيض المتوسط، عملا جادا ونقاشا مستمرا حول أمن البحار، يقود إلى تصور جديد وإلى فكر استراتيجي يأخذ في الحسبان مصلحة الدول العربية وحقوقها في الملاحة البحرية وأمنها. يجب على الدول العربية أن تنظر بعين مستقبلية في قراءة النتائج غير المحسوبة لأزمات أمن البحار، فأولى الطروحات التي قد تصدر مثلا، هو أن تكون هناك منظمات إقليمية تتدارس أخطار القرصنة والإرهاب في البحر الأحمر، أو التعامل مع تهريب البضاعة والبشر عبر البحر الأبيض المتوسط. ويجب ألا يغيب عن الأذهان، أن إسرائيل دائما تتصيد مثل هذه القضايا الدولية ذات الطبيعة الفنية Issue Areas لتدخل على العرب من شباك منظمات الأمن الأقليمي، إذ لا بد لأي منظمة إقليمية تتعامل مع الأمن الإقليمي للبحرين الأحمر والمتوسط أن تأخذ هذا في الاعتبار، لكون إسرائيل دولة مطلة على هذين البحرين.

سيطرة القراصنة على شاحنة البترول السعودية العملاقة، هو مبعث قلق كبير حول مستقبل هوية البحر الأحمر، وليس موضع هزل وضحك لأن «البحر غضبان ما بيضحكش، أصل الحكاية ماتضحكش!».