العراق : العودة إلى المربع الأول

TT

استغرق كتابة الدستور الدائم للعراق بعد سقوط نظام صدام ثلاث سنوات تقريبا. ثلاث سنوات من النقاشات الحرة والصريحة وصراعات فكرية وسياسية كانت تصل في بعض الأحيان الى حد القطيعة والرفض المطلق. أي أن الدستور كتب في ظروف طبيعية ديمقراطية بكل المقاييس، حيث المشاركة الايجابية والسلبية الواسعة من قبل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة وفئات اجتماعية مختلفة.

عندما أحيلت مسودة الدستور الى المناقشة من قبل الجماهير اعطي لها مساحة نقاشية شفافة وواسعة طالت كل بنودها ومصطلحاتها وتكوينها وشرعيتها وقانونيتها.

اخيرا بعد التمحيص والتدقيق وتعديلات عديدة طرح الدستور للاستفتاء الشعبي، جاءت النتيجة بأن 80% من العراقيين صوتوا لصالحه ليحددوا عن طريقه (الدستور) تكوين الدولة العراقية الجديدة وشكل نظام الحكم فيها.

الدستور يؤكد على ان الدولة العراقية هي دولة اتحادية ديمقراطية تقر بتشكيل أقاليم ذات صلاحيات كبيرة معززة ببرلماناتها وحكوماتها ومصادرها المالية وقوات مسلحة محلية واجبها حماية الاستقرار والأمن في الاقليم، كما يؤكد الدستور على حق المحافظات التي لا تدخل في تشكيلة أي اقليم التمتع بصلاحيات كبيرة ايضا من خلال ادارة المحافظة من قبل حكومة محلية.

هناك في الدستور مواد وفقرات وبنود واضحة لا لبس فيها ولا يمكن تفسيرها بغير ما جاءت من اجلها لتؤكد على فدرالية الدولة العراقية مما تقطع الطريق على كل راغب بعودة العراق الى الدولة المركزية والنظام الشمولي والحكومة الفردية المتحكمة من بغداد بكل مقدرات العراق والعراقيين.

فالفدرالية كشكل راق لتكوين دولة عراق لم تأت بقرار فوقي لحزب واحد انما أقرها قرابة 12 مليون عراقي من العرب والكورد والتركمان والآشوريين والكلدان وغيرهم، لذا فانها (الفدرالية) ليست وليدة ارادة استبدادية تفرض ما تريده وانما هي تعبير حقيقي عن رغبة العراقيين في اعادة تشكيل دولتهم على اساس من اللامركزية تعطي صلاحيات دستورية للاقاليم والمحافظات على ان تبقى الحكومة الاتحادية حكومة قوية تعبر عن مجموع القوة المتشكلة من قوة الاقاليم والمحافظات، كما تعبر عن سيادة العراق وتمثلها في المحافل الدولية، تسير الامور السيادية في العلاقات الخارجية والدفاع والمالية وغيرها من الواجبات السيادية.

ان العمل من اجل اقامة دولة عراقية قوية لابد ان يأخذ مجرى آخر غير ذلك الذي اتخذه طوال 80 عاما من تأريخ العراق. فقوة العراق دولة وحكومة لا تكمن في تقوية سلطات وصلاحيات حكومة مركزية وانما تكمن في تقوية متوازية بين الاقاليم والمحافظات وبين بغداد العاصمة. فمصدر قوة الحكومة الاتحادية ليس في مركزيتها وجبروتها وعسكرتها كما يريدها السيد نوري المالكي، انما تكمن تلك القوة في تجميع قوة كل الاقاليم والمحافظات في وحدة واحدة متكاملة هي قوام العراق الفدرالي.

ان قوة الحكومة الاتحادية لا تكمن في مصادرة السلطة من قبل فئة حزبية او طائفية واحدة وانما تكمن في تحويل الحكومة الاتحادية الى حكومة المشاركة من قبل الكل، قادرة على تنظيم العلاقة بين الاقاليم وبينها وبين بغداد العاصمة التي تمثل العراق.

ان قوة الحكومة الاتحادية لا تكمن في الانفراد بالقرارات، والتحكم بالمقدرات السياسية والاقتصادية والمالية من قبل شخص واحد، وانما تكمن في المشاركة العادلة لجميع الاقاليم والمحافظات في رسم السياسة وادارة شؤون البلد في اطار الدستور الذي يحدد صلاحيات الاقاليم والمحافظات من جهة والحكومة الاتحادية من جهة اخرى.

ان قوة الحكومة الاتحادية لا تكمن في العلاقة بين قوي في بغداد وضعفاء في شتى المحافظات العراقية الاخرى، وانما تكمن في الاتحاد بين بغداد القوي مع اقاليم ومحافظات اقوياء سياسيا واقتصاديا تعلم كل واحدة منها حدود صلاحياتها التي يحددها الدستور.

من هنا ياتي الحديث عن دعوة رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي الى اعادة علاقة الاقاليم والمحافظات مع المركز باتجاه تقوية سلطة الحكومة المركزية ليعيد بنا الى ما قبل اسقاط نظام صدام المركزي، والى ما قبل كتابة الدستور واقراره من قبل الغالبية العظمى للشعب العراقي في استفتاء ديمقراطي نزيه.

ان هذه الدعوة لم تكن مفاجئة للوسط السياسي في العراق وانما اتت كنتيجة حتمية لما كان نوري المالكي يعمل من اجله منذ فترة غير قصيرة وبالاخص منذ ان نال بعض النجاحات في محاربة التنظيمات الارهابية وعصابات الموت متوهما بذلك انه هو البطل المنقذ الذي طال انتظاره وكأنه يجهل حقيقة التحول الذي جرى في العراق وان الشعب العراقي هو الذي كشف زيف دعوات وشعارات هؤلاء وعرف حقيقة سلوكهم الاجرامي فدار بظهره لهم اول الامر ومن ثم وقف بوجههم معلنا رفضه لسياساتهم وتفكيرهم التكفيري وسلوكهم الارهابي وصولا الى حمل السلاح لمحاربتهم. اي ان الارادة الوطنية العراقية هي التي وقفت بوجه الارهاب وليس السيد نوري المالكي وقطعاته العسكرية القليلة التي نكن لها كل الاحترام والتقدير.

ان الدعوة الجديدة ـ القديمة لنوري المالكي انما هي دعوة ليس لاعادة مركزة السلطة فحسب وانما هي في حقيقة الامر دعوة لمصادرة كل المنجزات التي حققها الشعب العراقي وضحى من اجلها بالغالي والنفيس.

انها دعوة لمصادرة منجزات اقليم كوردستان الذي يتمتع بالحرية والديمقراطية ويتقدم بخطى واثقة على درب التنمية والازدهار الاقتصادي منذ 17 عاما هو زمن النضال والتحدي ومقارعة الديكتاتورية والوقوف بوجه حصارين اقتصاديين.

ان دعوة نوري المالكي لمركزة السلطة انما هي دعوة لتفريغ الدستور من جوهره ومن ثم الغائه كليا ممهدا بذلك طريق العودة الى الزمن الذي كان قول «الرئيس» فيه هو القانون والدستور.

ان دعوة المالكي قد تكون جهلا بمفهوم الفدرالية وفقرا في ثقافة الفدرالية وعدم ادراك معاني توزيع الصلاحيات وتجميعها مرة اخرى في وحدة اتحادية اختيارية. ولكنني استبعد هذا الاحتمال كليا وخاصة عندما نعلم بان السيد نوري المالكي كان عضوا متمكنا في لجنة صياغة الدستور وشارك بشكل فعال في الحملة الوطنية للتثقيف بمواده وتحشيد الرأي العام لصالح التصويت عليه. اذن هناك احتمال ثان، وهو ان نوري المالكي يعمل عن قصد من اجل الرجوع بالشعب العراقي والعملية السياسية الى المربع الاول الذي بدأنا منه عملية اعادة تشكيل الدولة العراقية.

ان العودة الى المربع الاول يعني الكثير من الجور والاضطهاد والالغاء الاخر واقامة حفلات القتل والذبح، وانه من المتوقع ان يكون اول ضحايا هذه العودة الدراماتيكية هو السيد نوري مالكي نفسه لانه مطلوب رقم واحد عند الارهابيين والخارجين عن القانون وميليشيات الموت.

ويبقى السؤال الكبير نوجهه الى البرلمان العراقي لنسأله ألم يحن الوقت لسحب الثقة من حكومة المالكي وانقاذ العراق من النتائج المأساوية لسياساته المدمرة.

* كاتب وباحث كردي