دمشق ـ عون.. وافق شنٌّ طبقة!  

TT

من الغرابة أن يستغرب أحد «الحلف الدمشقي – العوني» الذي سيخترق، بعد زيارة النائب ميشال عون سورية، الحدود غير المرسّمة بين البلدين الشقيقين.  

فالقواسم المشتركة بين الجانبين أكثر من ان تحصى.

عون، مثلاً، لا يريد داخل شارعه السياسي وبيئته المسيحية «حلفاء» يناقشونه.. بل «أدوات» يحرّكها كما يشاء وتصدّق منه الشيء وعكسه. ودمشق أيضاً، تعلّمت من نجاح تجربة «الجبهة الوطنية التقدمية» في سورية، ولذا لا تريد في لبنان «حلفاء» بل ترتاح لـ«الأدوات» التي تصنعها وتجعل منها نواباً ووزراء وأكثر...  

وعون تجاوز المحاضرة بالعفاف إلى ادعاء القداسة، بدليل أنه و«تياره» بالكاد يمشون فوق الأرض، كما قال بالأمس. ودمشق أيضاً لا تكتفي بأنها أضحت مرجعية الثوار وقِبلة الممانعين في العالم، «فشر» سبارتاكوس و«العم» هو تشي مينه و«تشي» غيفارا.. بل تداني بنضال قيادتها ووحدويتها «الخلود» الذي نقرأ عنه في الكتب.

وعون عسكري فذّ خاض في حياته العسكرية «حرب إلغاء» كادت تدمّر المجتمع المسيحي، و«حرب تحرير» انتهت بلجوئه إلى السفارة الفرنسية، وتسلّم حلفائه «القدماء الجدد» في دمشق مقدّرات لبنان. ودمشق قيادة مقاتِلة تخاصم كل «أشباه الرجال» الذين لا يحاربون، مع أنها - وهي التي أرضها محتلة - لا تحارب إلا الأشقاء، ولا تحشد قواتها إلا على حدودهم، ولا ترسل المغاوير من «أصولييها» شرقاً وغرباً إلا لتنغيص عيشهم وخراب بيوتهم.

وعون صاحب موقف ملتبس من الطائفية، فهو معها عندما يمارسها بحقد وكراهية ومزايدات تصل إلى نبش القبور والمطالبة بإعادة أجراس الكنائس،.. لكنه ضدها عندما يمارسها الآخرون.. أللهم إلا إذا كانوا مثله «إلهيين». ودمشق، أيضاً موقفها ملتبس من الطائفية. فهي تقول إنها ضد الطائفية والطائفيين، لكنها تتحالف مع بعضهم وتدعمهم وتحرّضهم في العراق وفي لبنان ضد خصومهم، وخصومها، من الطوائف الأخرى. والدليل الأحدث تعامل دمشق الجديد الخطير مع مسيحييها ودروزها الذين تستجلب لهم اليوم «الفيروس» اللبناني الذي غذّته على امتداد سنوات. وهي حالياً تتوهّم أنها بدفعها مسيحييها إلى أحضان ميشال عون ستكرّس زعامته المطلقة لمسيحيي لبنان، تماماً كتوهّمها أنها بدعوتها وئام وهاب لإلقاء «المحاضرات» في السويداء.. تثبّت المقولة المنسوبة إلى الرئيس بشار الأسد عن أن له من ولاء الدروز أكثر مما لوليد جنبلاط! 

وعون ـ بالإذن من المغني الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم ـ «يكره» إسرائيل ويهيم بمقاوميها.. ومن لا يصدّق عليه بـ«وثيقة التفاهم» التي صارت أشهر من شرعة حمورابي، وبـ«ملحقها» الخطة الدفاعية المدهشة. لكنه مع ذلك لم يجد غضاضة إبان فترة إقامته الباريسية في زيارة واشنطن برعاية «اللوبي الإسرائيلي» وترحابه، ابتداء من ميراف وورمزر (الإسرائيلية أصلاً وفصلاً) مستضيفته في «معهد هدسون»، وانتهاء بنائب نيويورك الديمقراطي الليكودي إيليوت إنغل، الذي خاطب من أميركا جمهور عون في «مهرجان أنطلياس»، ثم يدّعي أبوة «قانون محاسبة سورية» وقرار مجلس الأمن 1559. ودمشق أيضاً، تعتبر نفسها العدو الألد لإسرائيل وللولايات المتحدة، وترمي بالخيانة كل من يستقبل مسؤولاً أميركياً، لكنها مع ذلك تردّد في كل مناسبة «أن السلام خيارها الاستراتيجي» (مع من؟)، وتجري المفاوضات غير المباشرة (؟) مع إسرائيل، وتستقبل غير مرة غلاة «اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن كالنائب الراحل توم لانتوس، وتنتظر تغيّر اتجاه الريح فيها لخوض حوار ودّي مع دنيس روس.. ومن هم من مدرسته.  

وعون يوهم نفسه وجمهوره المعبأ طائفياً بأنه الذكي الذي يستغلّ «حزب الله» لكي يصفّي له حساباته الطائفية والشخصية ضد «السنيّة السياسية»، مع أن «حزب الله» هو الذي يستخدم عون غطاءً رخيص التكلفة لفرض هيمنته على لبنان. ودمشق توهم نفسها بأنها تستطيع إلى ما لا نهاية اللعب على التناقضات لإضعاف «السنيّة السياسية» في المنطقة مستعينة بقوة إيران، في حين أنها في الحسابات الإيرانية الإقليمي ـ مثلها مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ـ مجرّد حلقة مكملة لمشروع هيمنة طهران الجيو بوليتيكية في منطقة الشرق الأوسط.

بعد كل هذا أيجوز أن تُطرح علامات استفهام أو تعجب؟  

أعتقد أنه آن الأوان لتغيير أسلوب تعامل «قوى 14 آذار»، وكل حريص على مصلحة لبنان وشعبه، مع النائب عون. فالسكوت على أقواله وأفعاله ما عاد جائزاً ليس فقط لأن ما يقوله ويفعله مضرٌّ بحق الوطن، وهو كان دائماً كذلك، بل لأن جمهور عون ـ بصرف النظر عن نسبته بين المسيحيين ـ لا يريد أن يقتنع بأن مسيرته الحالية ستقود إلى إنهاء المسيحيين وإلغاء الحاجة للبنان كحالة تعايش وتجربة ديمقراطية عاقلة ومنفتحة ومعتدلة. وبالتالي، لا نفع يُرتجى من تحاشي استعداء هذا الجمهور خشية أن يكرّر عون طرح نفسه أمامه «شهيداً» لـ«عدوان» المسلمين السنّة. ثم أن السكوت بات مسيئاً وظالماً للمسيحيين من فريقين: الأول هو الذي اكتشف حقيقته منذ البداية، والثاني الذي تنبّه إليها في الفترة الأخيرة .. فابتعد عنه.

أما بالنسبة لدمشق، التي قرّرت عملياً إلغاء خصومها السياسيين في لبنان عبر سلاح الفتنة الطائفية، فلا بد من تذكيرها بأنه عام 1860، عندما عصفت المجازر الطائفية بجبل لبنان، امتدت ألسنة اللهب إلى دمشق.. فشهدت بدورها مجازر فظيعة بين المسلمين والمسيحيين. وكادت تلك المجازر أن تعرّض دمشق لاجتياح القوات الفرنسية التي احتلت الجبل بقيادة بوفور دوتبول بعدما تقدّمت باتجاهها، لولا مسارعة السلطنة العثمانية إلى إرسال داهية السياسة الخارجية فؤاد باشا على جناح السرعة، فاستبَق وصول القوات الفرنسية مجرياً محاكمات شكلية سريعة انتهت بإعدام والي دمشق أحمد باشا. وأدت هذه التدابير إلى تأجيل سقوط عاصمة الأمويين بيد الفرنسيين حتى 1920. في مثل الظروف الخطيرة التي تعيشها المنطقة اليوم، ومنها تنامي الأصولية، قد يكون من الحكمة أن يتعلم الحكم السوري الحالي من حَذَر سابقه، فلا يزّج بمسيحيي سورية ودروزها في معاركه ضد «السنيّة السياسية» المعتدلة، التي يجب أن يعلم أن بديلها الوحيد.. التكفيريون و«القاعديون».

فهل يستحق تنصيب ميشال عون رئيساً ـ دمية في لبنان، كخلفاء فترة انحطاط الدولة العباسية المركزية.. ربما تحت مسمى «المستزلم لحزب الله»، تفجير سورية من الداخل؟