قصيدة ورواية

TT

يقول إعلان في «الموند دبلوماتيك» عن روايات صنع الله إبراهيم المترجمة إلى الفرنسية إنها صور عن حياة مصر. ولعلها، على الأقل، صورة عن مرحلة عاصفة من حياة مصر من خلال سيرة كاتب انطباعي واقعي لم يعرف التراجع أو التساهل. لكن الذي لفتني جداً في الجزء الأخير من السير الذاتية التي وضعها، أنه مدون بلغة الأشياء. وأنا شبه واثق من أن صنع الله إبراهيم لا يعرف الشاعر اللبناني الفريد شوقي أبي شقرا. لكن الشاعر سبق الروائي بسنوات طويلة في جعل «الأشياء» الجزء المهم في الحياة: العربة. اللوحة. الإناء. الوعاء. الدفتر. وما إلى ذلك من أجزاء الصورة التي يعيد ترتيبها بأناقة شعرية ذات إيقاع خيالي وموسيقى جمالية. في روايته «التلصص» يبدو صنع الله إبراهيم وكأنه يستعير من عالم الأشياء عند شوقي أبي شقرا: «يتحسس طرفي شاربه الرمادي الملويين إلى أعلى. يتأكد من أن طربوشه مائل قليلا ناحية اليسار (...). المقاعد المرتفعة وأسفلها. ماسحو الأحذية. الراديو الضخم في المؤخرة. كواء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. الأنوار باهتة في أول الليل.

«مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة. ندلف إلى ميدان الظاهر. سينما فاليري الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطى بإيشارب حريري. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام لونه أزرق مع أبيض (...) ننتقل إلى حانوت اللبان. نشتري سلطانيتين من المهلبية. نعبر الميدان مرة أخرى. نتمهل أمام عربة تحمل كوماً عالياً من الفول الحراتي الأخضر (...) يطلب أبي من سليم عشر بيضات وخمسين درهم جبنة وخمسين درهم حلاوة وعلبة شاي «الشيخ الشريب» وقطعة صابون نابولسي وأخرى داكنة اللون للمطبخ». هذه القاهرة في الأربعينات. لوحة من تفاصيل الشارع والحارة والبيت. لا يروي صنع الله إبراهيم ولا يحكي ولا يشرح ولا يتأمل. يمشي ويسرد المشاهدات كأنه مكلف كتابة سيناريو لفيلم وثائقي عن حارة مصر وبيوتها:

«تضع أم نظيرة الحلة فوق وابور الكاز بعد أن تضيف إليها المياه. تقشر الثوم وتقطعه بالسكين إلى أجزاء دقيقة. تضعه مع السلق في قلاية معدنية بمقبض طويل. تتناول برطمان السمن. تمسك حلة القلقاس بفوطة وترفعها عن النار. تقلب الخليط بالملعقة (...) حواري ضيقة مزدحمة. بوابات قديمة ومصاطب حجرية أمام الدكاكين».

الرفيق الدائم عند صنع الله إبراهيم هو الأب. الرفيق الحاني عند شوقي أبي شقرا هو الأب الذي فقده باكرا عندما سقط عن دراجته البخارية الحكومية. عند الروائي وعند الشاعر، يتحول الأب إلى بطل في الرواية والى ألم في القصيدة.