منسي.. سيرة واقعية على تخوم اللامعقول!

TT

«منسي إنسان نادر على طريقته».. كتاب لا يختلف القراء على اعتباره من أجمل روائع الطيب صالح، فهذا الكتاب الذي صدر قبل بضع سنوات أعدت قراءته مرات ومرات، وفي كل مرة أجد نفسي مدفوعا للكتابة عنه من جديد، فلقد جعل الطيب صالح من سيرة صديقه «منسي» عملا إبداعيا كبيرا تتوحد فيه كل أجناس الأدب، فلا تملك إلا أن تسلم له نفسك وروحك وعقلك، وحينما تنتهي من القراءة يكون «منسي» قد تلبسك، وعبثا تحاول إخراجه من رأسك، وببساطة تخرج «إيه ولا إيه» من حكاية ذلك الإنسان الذي يقول عنه الطيب صالح إنه: «أحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة. حمل عدة أسماء: أحمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بسطاوروس، ومايكل جوزيف. ومثل على مسرح الحياة عدة أدوار: حمالا وممرضا ومدرسا وممثلا ومترجما وكاتبا وأستاذا جامعيا ورجل أعمال ومهرجا. ولد على ملة ومات على ملة. ترك أبناء مسيحيين وأرملة وأبناء مسلمين». حينما عرفه الطيب صالح كان فقيرا معدما، ولما مات ترك مزرعتين كبيرتين في بريطانيا وأمريكا، وقصرا ذا أجنحة وحمامات سباحة وإسطبلات خيل، وسيارة «رولزرويس» و«كاديلاك» و«مرسيدس» وجاغوار» ومطعما وشركة سياحة.

فهذا الرجل الذي ولد قبطيا في صعيد مصر ووصل إلى إنجلترا في عام 1952 بعد سلسلة من المغامرات، فدرس وعمل قبل أن يتزوج فتاة من أسرة إنجليزية عريقة تتحدر من سلالة «سير توماس مور» لينتقل من غرفته البسيطة في حي «فولهام» إلى دار أسرة زوجته المكونة من طابقين في حي «تشلسي» العريق، وغدت تفوح من بيت النبلاء ذاك رائحة «الملوخية والكمونية والكوارع والمسقعة». توسعت صداقته وامتدت من الجزار البسيط إلى «ساميول بكت» الروائي العظيم، كما تعاظمت طموحاته إلى حد الدخول في مناظرة عن القضية الفلسطينية مع الصحافي «ريتشارد كروسمان» رئيس تحرير مجلة الـ«نيو ستيتسمان» وأحد المنظرين الكبار في حزب العمل. ويصف لنا الطيب صالح لحظات انتصار منسي على خصمه، حينما تحول إلى سبع كاسر، يجري غاديا رائحا من آخر القاعة إلى المنصة يشير بيديه، ويقترب بهما من حلق الرجل، وكيف حلت عليه طاقة لا يدري الطيب من أين جاء بها منسي، وهو الذي لا يعرف الكثير عن القضية موضوع المناظرة!!

وتنأي الحياة بمنسي بعد ذلك بعيدا عن عيون الطيب صالح في الديار الأمريكية، ومنها إلى منطقة الخليج التي يتزوج فيها من زوجته الثانية، قبل أن تنطفئ شعلة حياته أخيرا في بريطانيا ليسدل الستار على حياة مسكونة بالتناقضات وتقلبات الدنيا وغرائبيات الأحداث. وظللت لفترة أظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أن تلك الشخصية من اختراع الطيب صالح، حتى التقيت بمن عرف «منسي»، وتعامل معه عن قرب، فلم تزدني أحاديثه عن شخصية منسي إلا تشوقا وفضولا، فلقد مات منسي ـ يرحمه الله ـ تاركا تفاصيل سيرة حياة تصل إلى تخوم اللامعقول.

[email protected]