كونوا شبابا !

TT

كنت أشاهد برنامج المذيع اللبناني، جورج صليبي، على قناة الجديد اللبنانية، وهو يحاور قادة التنظيمات الطلابية والشبابية في الأحزاب اللبنانية الرئيسية، وكعادة الشباب كانوا مفعمين بالحماسة والتدفق، لكن السؤال الذي ختم به المذيع برنامجه كان السؤال الذي تمنيت لو ركز عليه طيلة الحلقة، وهو: هل تملكون كقادة شباب لأحزابكم أن تختلفوا عن زعماء الحزب؟

إجابات قادة شباب حزب الله وأمل والتقدمي الاشتراكي (جنبلاط) والكتائب والقوات اللبنانية (جعجع) والتيار العوني وتيار المردة «فرنجية» وتيار المستقبل، كانت كلها مثالية وغير واقعية من قبيل أن: قائد الحزب ليس دكتاتوريا وأن لهم الحق في الاختلاف عنه وطرح رؤية مختلفة.. الخ لكن الجميل في هذه الإجابات هو أنهم ـ من حيث المبدأ ـ لم يقدموا فروض الولاء والطاعة ويكتبوا شيكا على بياض لزعماء الأحزاب «الملهمين» بل يحاولون البحث عن مكان وتعريف لهم وسط زحمة الكبار.

ما هي الفائدة إن كان شباب التيارات والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية نسخا مكررة من قياداتها في كل مكان، أين تذهب فائدة التجديد و«الدماء الشابة» ؟! إلا اذا كان غرض القادة «المزمنين» من كلمة الدماء الشابة أي الدماء غير العاقلة والدماء العمياء المستجيبة دون زيادة ولا نقصان ولا ابداع.

حسن نصر الله حينما تولى قيادة حزب الله (1992) بعد اغتيال أمينه السابق عباس الموسوي، كان بعد في الثانية والثلاثين من عمره! كان شابا ويمثل الجيل الجديد في هذا الحزب الإلهي، وبفضل شبابه وحيويته ـ وبفضل عوامل أخرى طبعا ـ نقل الحزب من حالة الدكاكين الحزبية المماثلة، إلى كونه هو الحزب / الدولة، في لبنان. سمير جعجع حينما انشق عن الكتائب واستقل بمقاتليه وكون حزبه الخاص، كان ايضا شابا من شباب الزعيم بشير الجميل، الذي كان هو بدوره ايضا شابا متقدا. وليد جنبلاط، وإن كان لذلك اسباب وراثية زعامية، حينما تولى قيادة الحزب التقدمي بعد اغتيال والده، كان شابا. لكن الآن، وبعد هذه السنين الطوال من قيادة المشهد السياسي في لبنان، اصبح هؤلاء كلهم كهولا او شيوخا، وفقدوا القدرة على الإبداع في الخيال السياسي، للدرجة التي يمكنك فيها سماع نشرة الأخبار اللبنانية كل أسبوع أو شهر مرة واحدة دون أن يتغير عليك كبير شيء!

المشكلة هي أن يكرر الشباب مقولات زعمائهم وينخرطوا بها دون أدنى تبصر وتفكر ومراجعة لأنه إذا حصل هذا الأمر فإننا نصبح قتالين لحركة الزمن ومعاندين لها، يصبح زمننا وكأنه صورة واحدة مكررة على مدى مئات السنين. لماذا تفرح الأمم بشبابها وتعول عليهم وتكتب فيها القصائد الطوال وتخصص لهم البرامج التنموية وتعنى بها وزارات خاصة؟ لأنهم منبع التغيير ومصدر الشلالات النقية الدفاعة بالحياة الجديدة، غير انه اذا ما تم تحويل طاقة هذه المياه إلى تشغيل النواعير القديمة فقط، فإننا نغتال نقاء الماء ونتفه معناه الإحيائي.

نسبة الشباب في العالم العربي حسب بعض التقديرات تتجاوز 60% وحسب الدكتور مروان المعشر، رئيس الوزراء الأردني السابق والنائب الأول لرئيس البنك الدولي للشؤون الخارجية في كلمة ألقاها بمناسبة صدور تقرير البنك الدولي حول التعليم (فبراير 2008) قال: «تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديات جديدة ذات تأثير مباشر على قطاع التعليم. ويأتي على رأس تلك التحديات إجمالي نسبة الشباب بالمنطقة حيث تعتبر أعلى نسبة من مجموع السكان الكلي على مستوى العالم».

هؤلاء الشباب غير حاضرين أبدا في التأثير على المجال العام، ولذلك فهم فعلا أشبه بـ«الأغلبية الصامتة» كما قال بعضهم، لا نعرف على وجه الدقة طبيعة اهتمامات هؤلاء الشبان ولا تصوراتهم للمستقبل ولا رأيهم الحقيقي فيما يجري، ولا نعرف رأيهم فيما يجب أن يجري، فأغلب الوسائل الإعلامية لا تجد طريقا إليهم ولا يجدون هم طريقا إليها، أما الوزارات والهيئات والرئاسات التي تسمى باسم الشباب فقد تحولت إما إلى بيروقراطيات ضخمة، أو أنها اختزلت الشباب في أقدامهم، من خلال كرة القدم.

لا سبيل أمام هؤلاء الشباب في التعبير عن أنفسهم إلا الانترنت، وكثيرون لا يملكون ثمنه او أنهم لا يملكون الوقت اللازم له، بسبب الدراسة او الكدح، أو أنهم لا يجدون الدافع المحفز لهم والمثير لفضولهم واهتمامهم، ولكنه يبقى، أعني الانترنت، هو المسرح الأساسي والحر لأنفاس الشباب والشابات وأصواتهم، فمن خلاله يبدون رأيهم في الأحداث العامة، ويقدمون انتقاداتهم للسياسات الاقتصادية والتعليمية والإعلامية، بدون قيد ولا وجل من الرقيب الاجتماعي أو غيره، خصوصا وأنه من خلال الانترنت وغرف الدردشة أو المنتديات غير ملزم بالإفصاح عن اسمه وهويته، وليس صحيحا النظر إلى ما يكتب في الانترنت باعتباره ثرثرة فارغة، بل يجب على من يريد التعرف على مواضع أقدامه، من صناع القرار، أن يهتم بهذا المنبر الحر، نسبيا، ليعرف الأرض التي يمشي عليها، مع أننا نعرف أن غرف الدردشة او المنتديات او صفحات الفيسبوك ليست مصدرا أكاديميا مثاليا، لكنها منابر تبقى مؤشرا على النبض العام، وربما نتذكر ما الذي صنعه الفيسبوك وشبابه المصريون في تحريك الشارع السياسي، ونتذكر ما الذي صنعه المدونون الكويتيون الشباب في التحركات الشعبية الضخمة التي طالبت بتعديل الدوائر الانتخابية في الكويت إلى خمس دوائر، وقد كنت شاهدا على مجلس حافل بشباب وشابات في الكويت أثناء تلك التحركات الشعبية والنيابية، وكان مجلسا مفتوحا للجميع، وكل شاب او شابة يحتضن جهاز اللابتوب ويرسل أو يستقبل منه مواد او تعليقات حول الحدث.

دائما ما تكون مرحلة التغيير والحماس هي في مرحلة الشباب وكثيرا ما خرجت من رحم الجامعات أصوات بدت هامشية رغم حدتها، لكنها ما لبثت أن تضخمت وصارت هي السيدة لاحقا، إن جرأة الشباب ومغامراتهم ليست كلها متهورة ورعناء، حسب حكمة الشيوخ، بل إن منها ما غير حركة التاريخ وأعاد تحريك المياه من جديد، فالاسكندر المقدوني الذي غير تاريخ العالم القديم، بغزواته وفتوحاته الكبرى، ولا زالت أفعاله مؤثرة في ذاكرة الأمم وتواريخها، مات وهو بعد في الثالثة والثلاثين، وطارق بن زياد دخل الأندلس وهو شاب يانع، والفيلسوف الألماني العظيم، هيغل، ألف وهو في الخامسة والثلاثين، والإمام الشافعي أفتى للناس وهو بعد في الخامسة عشرة من عمره.

الشباب لوحده لا يقدر على الرؤية لكنه يقدر على جرأة التجديد ورؤية الحاضر، وهو يستلهم من رموز متقدمة عليه سنا، ولكنه إن اقتنع في لحظة ما بأنه قد حان وقت التغيير، ولم يلتقط الكبار هذه اللحظة، فإن التغيير يفلت من أيديهم، وينتقل إلى جيل آخر، بدون الوصل مع فكر السابقين، أو الاكتراث لهواجسهم.

يجب أن نتذكر، وهو أمر معروف، أن الشباب هم دوما وقود الحركات الاجتماعية والصراعات الفنية والتيارات السياسية، وهم الذين لم يضجروا من الحياة ويرددوا ما قاله الشاعر العربي الشيخ:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش / ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

بل يعتقدون دوما، بأنه لم يحصل شيء بعد، وان التغيير الحقيقي لم يتم، دوما هم هكذا، عاطفتهم مثل الريح التي تحمل بذور اللقاح إلى الزهرات البعيدة في المروج.

وأقرب مثال على خطورة إهمال الشباب أو عدم الإصغاء اليهم، هو شباب تنظيم القاعدة الذين احترقوا في نيرانها الكاذبة، من أجل ذلك يجب الاهتمام بقاعدة الشباب حتى لا يصبحوا من شباب القاعدة!

في المأثور عن الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب: «أدِّبوا أولادكم بآدابٍ غير آدابكم، فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم».

[email protected]