إدارة أميركية تترك منطقة مثخنة بالجروح

TT

كان مفهومًا تمامًا لو أن ضجيج حزم الحقائب هو الذي يرتفع الآن عند ادارة الرئيس جورج بوش. أما أن يستمر الحديث عن الوعود والإنجازات بعد ثمانية أعوام عجاف، فذلك ليس مفهومًا على الاطلاق، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط والخليج، حيث لم يكن حصاد إدارة الرئيس جورج بوش عند مستوى كل ما قيل عن الفلح والزرع.

يكفي هنا أن يتأمل المرء في ثلاثة ملفات ساخنة: فلسطين ـ العراق ـ الإرهاب.

في ما يتعلق بفلسطين قرأ الناس قبل أيام تصريحًا للمتحدثة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو وفيه أن الولايات المتحدة ملتزمة عملية السلام في الشرق الأوسط، وأنها «ستعمل كل يوم» لتحقيق هذا الهدف إلى أن يغادر الرئيس جورج بوش مكتبه في كانون الثاني/يناير المقبل. وقالت: «اننا ملتزمون برنامج أنابوليس الذي أطلقناه العام الماضي والذي سيساعد الفلسطينيين والإسرائيليين على تحديد معالم دولة فلسطينية... وسنعمل يوميًا على تحقيق هذا الهدف. ولقد حقق الجانبان تطورًا كبيرًا مع استمرار جهودنا».

لم يكن هذا التصريح الأول من نوعه فلقد تكرر منذ أشهر، الحديث في البيت الأبيض ووزارة الخارجية عن استمرار رعاية المسار الفلسطيني وعن الالتزام بإنجاز التسوية قبل أن يغادر بوش البيت الأبيض، رغم أنه من الواضح والمفهوم أنه لم يعد قادرًا على فعل شيء لسببين لا علاقة لهما بالقضية الفلسطينية، بل بالتطورات السياسية في الولايات المتحدة وإسرائيل والمقصود هنا الانتخابات التي جرت في اميركا وستجري في اسرائيل.

طبعًا لا داعي إلى التذكير بما دأبت الصحافة الأميركية على ترديده عشية انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية وهو أن بوش تحول بطة عرجاء ولم يعد في وسع إدارته أن تحقق شيئًا ملموسًا وخصوصًا في نطاق السياسة الخارجية.

ومن حق المواطن في الشرق الأوسط أن يتساءل وبذهول، كيف تستطيع إدارة بوش المضي في قطع وعود التسوية وهي الآن في ربع الساعة الأخير من ولايتها، وهي التي لم تحقق أي تقدم يذكر منذ تلك «الليلة الظلماء» التي أشرقت فيها «رؤية بوش» لقيام الدولتين، أي قيام دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، وكان ذلك في عام 2003؟

وإذا كانت واشنطن قد عجزت عن تحقيق خطوة واحدة في خمسة أعوام فهل تستطيع أن تفعل شيئًا في خمسة أسابيع أو بالأحرى في خمسة أيام، وهي التي نظمت في العام الماضي مؤتمرًا دوليًا في أنابوليس لدفع التسوية إلى الأمام وقد قامت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بدزينة من الزيارات إلى إسرائيل من دون أن تنجح في إقناعها باستجابة شروط التسوية؟

الآن وقد كان الصوت اليهودي تكراراً عامل ضغط مؤثر في الانتخابات الرئاسية الاميركية، كيف يمكن إدارة بوش أن تفكر بلعب أي دور مؤثر في إنجاح التسوية؟

هذه واحدة. أما الثانية فأدهى، وهي تتصل طبعًا بما حصل في إسرائيل من تداعيات سياسية، لن تنتهي قبل أن تكون إدارة بوش قد غادرت لتحل في مكانها إدارة الرئيس الجديد.

ومن المعروف أن رئيس الوزراء إيهود أولمرت سقط مثل ثمرة فاسدة. ولكن بعدما نجحت وزيرة الخارجية في تزعّم حزب كاديما فشلت في تشكيل حكومة جديدة، وتقرر الذهاب إلى انتخابات مبكرة، تؤكد كل الاستطلاعات والتوقعات انها تمثل فرصة ذهبية أمام الليكود وزعيمه المتصلب بنيامين نتنياهو للوصول إلى رئاسة الحكومة وهذا يعني في حال حصوله إلقاء «رؤية بوش» في ملفات النسيان وإقفال الأبواب أمام أي احتمال للتسوية.

وإذا كانت ليفني تخوض حملتها الانتخابية تحت شعار «النزاهة» مقارنة بـ«وساخة» أولمرت، فإن نتنياهو يخوض حملته اعتمادًا على مسألتين يرفض التفاوض حولهما: القدس «عاصمة شعب إسرائيل منذ 3000 عام»، كما يزعم واللاجئون «لأنه ما من شعب يجري مفاوضات في شأن سبل القضاء عليه». وهو يقول إن «ليكود يطمح لتحقيق السلام، وهو أيضًا حقق السلام (مع مصر). السلام يصنع من منطلق قوة لا ضعف... سياستنا تقوم أساسًا على دفع سلام اقتصادي مع الفلسطينيين من أجل تحقيق السلام». ويضيف أن «ليكود» لن يعيد إسرائيل إلى حدود العام 1967 «والأمن سيبقى بأيدينا فقط».

في ضوء كل هذا كيف يمكن الحديث في البيت الأبيض عن إنجاز قد يتحقق قبل مغادرة إدارة الرئيس بوش؟

طبعًا يحتاج المرء إلى كثير من الغباء لكي يصدق ما يسمع أو لكي يصدق أن هناك فعلاً من يصر على تسويق الأوهام حتى اللحظة الأخيرة.

ولقد صادف اطلاق الوعود الأميركية باستمرار مساعي التسوية قبل أيام، قول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في القاهرة: «ان 57 دولة عربية واسلامية ستقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل وترفع علمها على سفارات في عواصمها إذا قبلت مبادرة السلام العربية، وهذه المبادرة في نظري هي أثمن ما قدم للقضية الفلسطينية منذ عام 1948».

وإذا كان هذا الكلام يعني أن إدارة بوش ضيعت فرصة تاريخية لتحقيق التسوية، فإنه يعني من ناحية ثانية أن إسرائيل باتت مكشوفة تمامًا وظهرت على حقيقتها أمام العالم الغربي والرأي العام الدولي بعد المبادرة العربية للسلام، التي كان قد قدمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وأقرّت في قمتي بيروت ثم الرياض. ففي الواقع ان إسرائيل تخاف دائمًا ان ينقلها السلام إلى حال من الاسترخاء والركون. وهذا يمكن أن يخلخل القاعدة السيكولوجية للإسرائيليين. وهي القاعدة التي قامت عليها كدولة للحرب والتوسع محاطة بالأعداء ومعرضة للتهديد بما يسهّل انكسارها في المستقبل.

من هنا تبرز أهمية المبادرة كرد فعلي على ما كان يتردد من أن العرب لا يملكون أفقًا للسلام. ثم من خلال إظهار حقيقة إسرائيل أمام العالم. وقبل أيام أيضًا، لم تتوان كوندوليزا رايس في القول ان إدارة الرئيس بوش ستغادر البيت الأبيض والشرق الأوسط أحسن حالاً مما كان عليه.

يمكن هذا الكلام غير المعقول أن يقودنا إلى أماكن كثيرة في الشرق الأوسط لتبيان عدم صحته. ولكن يكفي أن يتأمل المرء في المشهد العراقي لكي يكتشف مدى الأضرار الكارثية التي سببتها الحرب على العراق وهو ما انعكس سوءًا للأحوال فيه وفي المنطقة كلها تقريبًا.

وإذا كانت الموضوعية الواقعية تستدعي التدقيق في ما جرى ويجري في سياق الفوضى الأمنية العارمة التي حولت العراق ساحة للاقتتال والتدمير والتفجير وشلالات الدم والمآسي. وهي الساحة التي قالت رايس يومًا انها ستشكل منطلقًا لدمقرطة المنطقة بينما قال الحلف الإيراني ـ السوري انها ستشكل ساحة لإغراق أميركا في الوحول.

وإذا كانت الموضوعية تقتضي التدقيق في الناحية الأمنية العراقية فإنها تستدعي أيضًا التدقيق في المحصلات السياسية حيث يجب القول ان أميركا قدّمت العراق كملعب مفتوح للمناورات الإيرانية، بعدما كانت قد قدّمت أفغانستان كملعب مشابه للنظام في طهران. وكل ذلك في وقت واصلت إدارة بوش قرع طبول محاصرة إيران وممارسة الضغوط عليها والتلويح اليومي بتوجيه ضربة عسكرية إلى منشآتها النووية.

وإذا كانت إدارة بوش قد نزلت في العراق وقبله في أفغانستان في سياق الحرب على الإرهاب، فإن المحصلات الواقعية تؤكد عمليًا أن الأخطاء الكارثية التي ارتكبت لم تجعل الشرق الأوسط أحسن حالاً ولا جعلت العالم في حال أفضل كما وعد بوش، والدليل البسيط ان الأداء الخبيث لهذه الحرب خلق بيئات ملائمة لتفقيس المزيد من الارهابيين، حيث قامت بيئات إقليمية حاضنة بتصدير الإرهاب إلى العراق وفي اتجاهات أخرى.

وفي سياق الحديث عن الإرهاب تفرض الموضوعية ان يتوقف المراقب مليًا أمام مشهدين: المشهد العراقي الذي أشرنا اليه والمشهد السعودي الذي فاجأ العالم وأثار دهشة الرأي العام وإعجابه والثناء عليه قبل ايام.

فلقد كان مثيرًا جدًا أن يقرأ المرء ما أعلنه وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز يوم 23 تشرين الأول/اكتوبر عن إحالة ما يزيد عن ألف إرهابي على المحاكمة، كان قد أُلقي القبض عليهم في المملكة العربية السعودية وهم من جنسيات عربية عدة، وذلك بعد مطاردات وعمل دؤوب ووفق سياسة هادفة وبعيدة المدى منذ خمسة أعوام.

المثير أكثر أن وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، كان يعلن في الوقت عينه يوم 23 أكتوبر، أن الرياض تلقت طلبًا رسميًا من الرئيس الأفغاني حميد كرزاي يريد أن تقوم السعودية بوساطة بين الدولة الأفغانية وحركة «طالبان»، بهدف إنهاء الاقتتال وإعادة بناء البلد. طبعًا لم يكن كرزاي ليطلب المساعدة من السعودية من دون موافقة أميركا وحلفائها. وطبعًا لا تملك السعودية المنكبة الآن على محاكمات الإرهابيين عندها سوى المحاولة. وهي محاولة لا يمكن رفضها «لأننا مهتمون بالأمن والسلم في هذا البلد الذي طال عناؤه» كما قال الفيصل. ولكن الأمر يعود في النهاية إلى الأفغان أنفسهم وما إذا كانوا يريدون حل مشاكلهم بالحوار بعد التخلي عن السلاح واتباع الطرق السياسية والدستورية. ان المقارنة بين هذين المشهدين، ليست إلاّ على سبيل محاولة الإضاءة على الحقائق، وخصوصًا لجهة قول السيدة رايس أن إدارة الرئيس بوش ستترك الشرق الأوسط وهو أحسن حالاً مما كان عليه قبل ثمانية أعوام.

ان حساب البيادر الأميركية في الشرق الأوسط والخليج العربي لا توافق كل ما قيل عن حسابات الزرع، لكن الصحيح تماماً أن المنطقة تكاد أن تصبح مع انتهاء ولاية هذه الادارة الأميركية أرض الفلاحة والجروح النازفة.