اللعب بالوسطاء والكبار أيضا !

TT

مر العالم على مدى العصور بأشكال مختلفة من الاستعمار والاضطهاد والاستيطان وحتى الاستعباد المباشر الذي نقل الناس عبيدا بين القارات؛ ولكن كل ذلك انتهى الآن فمنذ منتصف القرن العشرين أخذت شعوب العالم المختلفة واحدة وراء الأخرى تتخلص من هذا العار التاريخي. ولم تقف صعوبات الاستيطان الأبيض في جنوب أفريقيا في النهاية أمام نيلسون منديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي ووصوله إلى السلطة ممثلا للأغلبية، ولكن مع إقامة دولة ديمقراطية غنية ومتقدمة وقادرة على أن تقف بين الكبار في العالم. وفي الولايات المتحدة جاء انتخاب باراك أوباما رئيسا للجمهورية ليس فصلا جديدا في السياسة الأمريكية ولكن خلاصا من خطيئة تاريخية للتمييز العنصري والعبودية. وفي العالم كانت هناك صور كثيرة للتعامل مع معاصي وذنوب وخطايا بأشكال كثيرة عملت البشرية على تصحيحها وغفرانها والمضي قدما نحو بدايات جديدة للتقدم الانساني.

شعب واحد من بين كل دول العالم فشل في تحقيق هذا الهدف هو الشعب الفلسطيني الذي ظل لأكثر من قرن يبحث عن طريقه نحو الدولة والاستقلال والخلاص من الاحتلال والاستيطان والجرائم الاستعمارية المتنوعة. ولم يكن ذلك راجعا أبدا لفقر في الاستعداد للتضحية والفداء، ولا لنضوب في الوطنية الفلسطينية، ولا لضعف في الروابط التاريخية أو القدرة على الصبر في المكاره؛ فقد كان لدى الشعب الفلسطيني من كل ذلك فائض كبير. أما نقطة الضعف الأساسية التي عانت منها «القضية الفلسطينية» منذ نشأتها فقد كانت كامنة في القيادة والنخبة السياسية والفكرية التي أخذت شعبها في معظم الأوقات إلى التهلكة. وقبل «النكبة» كان الفارق كبيرا بين النخبة السياسية الصهيونية وتلك الفلسطينية من حيث تكوين المؤسسات السياسية وبناء التحالفات الإقليمية والدولية؛ وبعدها قامت حركة التحرر الوطني الفلسطينية بما لم تقم به حركة وطنية في العالم عندما سلمت نضالها لقيادة كل زعيم أو حركة ذات كلمات أو سلوكيات راديكالية حتى جاءت «النكسة» وتعود القيادة الفلسطينية بعد فقدان بقية الأرض إلى القيادة من جديد تحت راية منظمة التحرير.

وبالطبع لا توجد نية هنا لإعادة سرد تاريخ النضال والمأساة الفلسطينية عبر العقود الأخيرة حيث لاحت بشائر الدولة المستقلة ولكن القيادة والنخبة الفلسطينية عجزت عن الإمساك بها وأضاعت ما كان متاحا وممكنا وفوقها التعاطف الدولي والتفوق الأخلاقي الذي كان دوما واحدا من المزايا الاستراتيجية الواقعة لصالح القضية «المركزية». ولكن المناسبة هنا تدلنا على العوار الكامن في قلب هذه القيادة عندما يصرح مصدر من مصادر حماس أن مصر لا يمكن أن تحقق المصالحة الفلسطينية؛ وأنه لا توجد مشكلة في نقل الملف إلى دول «قادرة»، و«هناك دول لها خبرة ونجحت». لاحظ هنا أن مصر هي طوق النجاة الوحيد لقطاع غزة في الاتصال بالعالم؛ وأن مصر حتى الآن هي الدرع الذي وقف بين إسرائيل واجتياح قطاع غزة واغتيال القيادات الفلسطينية؛ وأن مصر هي التي تقدم برنامجا متكاملا ليس فقط لإنقاذ غزة، وليس فقط لتحقيق المصالحة بين الفصائل بحيث تعود السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة للفلسطينيين فيكون هناك معنى للقضية الفلسطينية، وإنما فوق ذلك كله أن مصر هي التي تستطيع دفع عملية التسوية مرة أخرى إلى الأمام.

ولكن كل ذلك ليس مهما بالنسبة لقيادة حماس، فهي تتصور أنها تعطي لمصر «دورا إقليميا» تتوق إليه حتى صار الأمر نوعا من «البركة» التي توزعها على الدول العربية «القادرة» ـ يقصد السعودية ـ والتي لديها خبرة أي السعودية أو قطر. متحدث حماس هنا، والقادم من جماعة محدودة الموارد والأرض، ومسؤولة عن شعب محاصر يتصور أولا أنه يمكن أن يلعب بالوسطاء العرب لأن كلا منهم يريد دورا إقليميا وهي فكرة أشاعها بعض الكتاب المصريين والعرب مرة عن مصر ومرة أخرى عن السعودية ومؤخرا بدأ البعض يضفيها على قطر. وهو يتصور ثانيا أن هذه الدول لا تستطيع أن تعيش بدون دور تلعبه في القضية الفلسطينية وكأنه لا توجد لديها مصالح أخرى داخلية وخارجية وسط أزمات دولية طاحنة، ووسط تهديدات للأمن القومي المباشر لكل دولة تجعل القضية الفلسطينية تشحب في أولوياتها السياسية. وهو لا يتصور ثالثا أن هذه الدول العربية لا تنسق ولا تتصل مع بعضها البعض، وكلها يعرف مآسى التعامل مع القيادات الفلسطينية وانتهازيتها وأكاذيبها وعجزها حتى لو صلت بالحرم الشريف وتعلقت بأستار الكعبة.

ولكن المشكلة الأكبر في الموضوع ليس كل ذلك فقد خبرنا النخبة القيادية الفلسطينية على مدى عقود طويلة حيث كان الإعلام وكثرة الكلام والمزايدات جزءا من الكارثة؛ ولكن جوهرها دائما هو أنك لا تعرف أبدا ما هو الغرض الاستراتيجي من خطوة ما، فلا تعرف ما هو مكان العمليات الانتحارية في عملية التحرير، ولا مكان عملية التهدئة في عملية الاستقلال، ولا موضع مفاوضات المصالحة والمفارقة والخلاف في عملية إنقاذ الشعب الفلسطيني من الحالة التي وصل إليها حيث يزيد الاستيطان والحصار، وينسى العالم كله القضية وما فيها، ولا يوجد أحد في العالم سوف يكون على استعداد لإعطاء دولة للفلسطينيين تقودها منظمة دينية.

وبالطبع فإن العالم العربي لديه من الأزمات ما يكفيه من أول انخفاض أسعار النفط بطريقة مروعة حتى انحدرت من 147 دولارا للبرميل لكي تصل إلى 50 دولارا، وحتى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تعتصر كل الأسواق العالمية بما فيها الأسواق العربية، لنصل بعد ذلك إلى عمليات القرصنة التي وصلت إلى ناقلات البترول لكي يرتبط الإرهاب بالجريمة المنظمة في حلقة منذرة بكوارث بيئية مروعة. ووسط ذلك كله فإن القضية الفلسطينية يمكنها أن تنتظر مائة عام أخرى كما انتظرت قرنا كاملا من قبل طالما أن القيادات الفلسطينية ـ وحماس على وجه التحديد ـ مشغولة بالتلاعب بالوسطاء العرب أكثر من اهتمامنا بتحقيق التقدم في الحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

ولكن حماس لن تصمت وسوف تظل لديها ورقة دائمة للعب بها وهي معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعيش وسط ظروف قاسية، وهو ما يضع كل الدول العربية في مأزق حيث لا يوجد حل للحالة الفلسطينية الممزقة بسبب حماس، كما لا يمكن السكوت على تدهور الأحوال المعيشية لشعب عربي، وهو نفس المأزق الذي عاشه العرب مع كل الحركات والقيادات الراديكالية العربية التي تصل بشعبها إلى الهاوية ثم بعد ذلك تلوم الجميع من عرب وعجم لأنهم يتركون أخوتهم في العروبة والإسلام يقعون في الهاوية السحيقة. ولا يوجد حل لهذه المعضلة إلا أن يكون هناك قدر من الصراحة من قبل الدول العربية حيث يكون واضحا لحماس وللفلسطينيين أنها لن تقبل بعملية التلاعب بين الوسطاء لأنه لا يوجد شرف ولا دور إقليمي في عمليات للوساطة أو المصالحة يعلم الجميع أنها لن تنجح، أو إذا نجحت فإن ذلك سوف يكون لفترة قصيرة وبعدها سوف يعود الجميع إلى النقطة التي كانوا عندها لأن حماس تكره السلطة الوطنية الفلسطينية بأكثر مما تكره إسرائيل؛ وإذا كانت تكره إسرائيل فإنها لا تحب فلسطين بنفس الدرجة.

ولذلك آن الأوان لكى يأتي الجميع إلى كلمة سواء، فالقضية لم تعد المصالحة وإنما انتخابات عامة فلسطينية جديدة حرة وتحت رقابة دولية يقول فيها الشعب الفلسطيني كلمته ويحكم بين الفصائل، ومن يحصل على التفويض سوف يكون عليه أن يقود الفلسطينيين إلى الدولة المستقلة والبقاء في معسكر النضال التاريخي. أما إذا استمرت حماس في رفض هذا الحل لخوفها من نتائج الانتخابات، فلا مفر في هذه الحالة من نزع الشرعية العربية عنها بحيث يكون ذلك واضحا للشعب الفلسطيني أن الشعوب والدول العربية الأخرى لديها طاقة لتحمل القضية الفلسطينية، وهي على استعداد لمساعدة الشعب الفلسطيني بقدر ما هو مستعد لمساعدة نفسه من خلال تقديم قيادات تكون مهمتها الأولى والأخيرة هي تحقيق الاستقلال الوطني للفلسطينيين وليس اللعب بالبيضة والحجر، والمناورة بين الدول العربية المختلفة، والاعتقاد في القدرة على التلاعب بالعالم كله وهي في أضعف حالاتها تأثيرا.