المغرب ليس فقط بلد عبور بالنسبة للأفارقة

TT

في إطار صياغة سيناريوهات لمغرب 2030 تم إبراز معطى ديموغرافي يجب أن يؤخذ بالاعتبار، وهو أن المغرب في أفق العقدين القادمين سيعرف انقلابا لهرم أعمار ساكنته إذ أن عدد البالغين أكثر من ستين سنة، سيتضاعف تقريبا في ظرف عقدين، وستقفز النسبة التي يمثلها أفراد الفئة العمرية المذكورة، من 8% حاليا إلى 15.4%. وسيرتفع عدد السكان من ثلاثين مليون نسمة إلى 38 مليونا. وفي المقابل سينزل عدد البالغين سن التمدرس من 42% حاليا إلى 28% في سنة 2030. وبذلك سيخف الضغط على الميزانية العمومية التي يجب أن تخصص لتأمين مقاعد في المدرسة للمغاربة الصغار القادمين في ما يستقبل من السنين.

وقد وقع الكشف عن هـذه المعطيات مضمنا في إسقاطات قام بها خبراء المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب في سياق مبادرة مبتكرة للهيئة المذكورة لتحضير رؤية مستقبلية متوسطة وبعيدة المدى، يتم في ضوئها اقتراح سيناريوهات متعددة، تساعد على تحضير مخطط اقتصادي لمدة خمس سنوات قادمة، يكون مرحلة في تطورات مقبلة أي أن يتم تحضير المخطط كرؤية تدخل في الاعتبار المعطيات المتعلقة بحوالي ربع قرن فأكثر، ابتداء من الآن.

وعلاوة على ذلك فإن المندوبية السامية للتخطيط تستدعي للحضور في الندوات العلمية التي تعقدها منذ 2004، في إطار إعداد هـذه السيناريوهات، خبراء أجانب ينتمون إلى مختلف المناطق من العالم لهم تخصصات متنوعة. وذلك للتعرف على تصوراتهم بالنسبة لما يتوقع من تطورات مقبلة في العالم، بمختلف المناطق التي يتعامل معها المغرب، وفي مختلف المجالات.

وفي هـذا السياق دعي للتأمل الجماعي في الموضوعات المطروحة خبراء اقتصاديون وديموغرافيون وسياسيون، من المغرب ومن أنحاء مختلفة في العالم. وكان لمبادرة المندوب السامي بدعوة الأدباء المغاربة ومنه شعراء وروائيون وقع حميد. وصاحب ذلك نوع من الاندهاش. وكانت تلك أول مرة يدعى فيها منتجو الخيال الأدبي إلى مشاركة منتجي الخيال العلمي بل والاقتصادي في وضع تصورات تهم التخطيط. وكان على هؤلاء أن يقلبوا النظر لاستشراف تطور المجتمع المغربي في العقدين المقبلين. وكان عليهم أن يقدموا تصوراتهم لوضع المغاربة وانشغالاتهم وأذواقهم وميولهم في سنة 2030. وكان على فئة الصحافيين أن يكتبوا مراسلة عن حادث سيتصدر الاهتمام في صبيحة يوم من سنة 2030. وكانت تلك أول مرة يؤخذ فيها بجد بما أدلى به مسافرون زادهم الخيال.

على أن كثيرا من المعطيات التي برزت من خلال هـذه الاستكشافات لا يدخل في مجال الخيال المحض، بل هو من باب الاسقاطات الحسابية التي لا يمكن أن يتجاهلها المخططون. ومن ذلك ما وقع التنبيه إليه من أن السرعة التي يتم بها النمو الديموغرافي في القارة الأفريقية تنبئ بأن عدد سكان القارة سيصبح بعد ربع قرن حوالي 1.400 مليون نسمة، أي أكثر من الصين الحالية وبدون مؤهلات التدبير التي تحلت بها الصين في العشرية الماضية.

ومن المعطيات التي يجب استحضارها أن دول القارة لن تتمكن من خلال حوالي خمسة مخططات اقتصادية قادمة أن ترفع بشكل محسوس وتيرة النمو الاقتصادي. وأكثر التوقعات تفاؤلا لا يمكن أن تتطلع إلى ما يقارب وتيرة نمو الدخل الوطني بنسبة 3 أو 4 في المائة. ونتيجة ذلك، بكيفية مؤكدة، هي أنه سيظل هناك فائض مهم من اليد العاملة الأفريقية التي لن تجد مناصب شغل في بلدانها، وستظل ترنو بأمل للحصول على مصدر للعيش في خارج القارة.

ومن السهل أن نتوقع أن ملايين عديدة من الأفارقة سيظلون متطلعين إلى الهجرة نحو أوربا، نظرا لأن بلدان القارة يحتمل أن يظل اقتصادها قادرا نسبيا على استيعاب قدر من اليد العاملة الآتية من بلدان أخرى، ومنها بلدان القارة الأفريقية. ونظرا من جهة أخرى إلى العجز الديموغرافي الـذي سيظل يميز القارة الأوربية، في المستقبل القريب.

وقد تضمن استطلاع ديموغرافي للأمم المتحدة نشرت معطياته منـذ حوالي عشر سنوات، ما يفيد أن أوربا ستكون في حاجة إلى 44 مليون عامل أجنبي لتحريك الآلة الاقتصادية الأوربية. وقد ورد في تقرير للبرلمان الأوربي صدر منـذ خمسة شهور، أنه لتلبية حاجات النمو الاقتصادي في القارة الأوربية، سيكون مطلوبا استيراد 56 مليون عامل أجنبي. وهـذا المعطى يقابله ما أسلفنا الإشارة إليه من أن اقتصادات الدول الأفريقية ستظل عاجزة عن استيعاب اليد العاملة الفائضة. وبالتالي فإنه إذا كان الرقم المتعلق بالعجز الديموغرافي الأوربي قد يشكل نداء لليد العاملة الفائضة في أفريقيا، فإن الوضع الديموغرافي في أفريقيا وتوابعه الاقتصادية المحتملة يخلق بكيفية بديهية تطلعات من السهل التكهن بأنها ستختار أوربا كمصب. لقد كانت أوربا طيلة قرون بلدا مصدرا للهجرة وها هي قد تحولت إلى بلد مستقبل، بدافع الضرورة الاقتصادية في بداية الأمر، والآن بدافع الضرورة الديموغرافية.

ولابد أن نستحضر ماذا يعنيه المغرب في وسط كل هـذا، كبلد عبور. لابد أن نستحضر أن عشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء يتخـذون المغرب مسلكا للوصول إلى أوربا. وفي السنوات الأخيرة، بالـذات منـذ حوالي عشر سنوات، أصبح المغرب بلد مقام بالنسبة لمئات الآلف من المهاجرين الـذين لا يقوون على اجتياز الحواجز المنيعة التي تقيمها الدول الأوربية، خاصة إسبانيا وإيطاليا، للحيلولة دون تسرب المهاجرين الفائضين عن حاجتها. وقد انعقد مؤتمر خاص بمراكش، تعاون على تنظيمه كل من المغرب وإسبانيا، للنظر في سبل معالجة مشكلة تدفق اليد العاملة الفائضة الآتية من الدول الأفريقية الواقعة في جنوب الصحراء، وتركز الاهتمام على أن السبيل الأمثل لمساعدة الدول الأفريقية على تطويق مشكلة الهجرة غير المرغوب فيها إلى أوربا، هو الاستثمار في الدول الأفريقية نفسها لخلق فرص الشغل في البلدان الأفريقية نفسها.

ومثل كل القرارات المتعددة الأطراف يبقى التطبيق معلقا بالإرادة من جهة، وبالشروط الظرفية المساعدة من جهة أخرى. وبما أن الظروف الحالية متأثرة بالعوامل المرتبطة بالأزمة الحالية للنظام المالي العالمي، وبما أن معالجة الوضع الناشئ عنها، ستتطلب زمنا ليس هو المدى القريب، فلابد أن نتوقع أن هجرة الأفارقة من دول جنوب الصحراء نحو أوربا ستستمر، وأن أولئك المهاجرين سيستمرون في اختيار المغرب كمعبر، وأن القليل منهم هم الـذين سيتاح لهم العبور، وأن أكثرهم، بمئات الآلاف، سيبقون في المغرب في انتظار الفرصة للاجتياز إلى أوربا، أو قانعين بما وجدوه. وقد بدا شيء من هـذا القبيل الآن، وأصبحت اليد العاملة المحلية تشكو من المزاحمة التي تشكلها اليد العاملة الأفريقية.

وفي ضوء هـذه المعطيات ذات الوقع المباشر، ومع هـذا السياق الـذي يتراءى بوضوح، لنا أن نتوقع أن المغرب سيتحول إلى بلد مقام بالنسبة لهـذه الفئة من المهاجرين الـذين يتجهون إلى المغرب لأسباب جغرافية بديهية، وكـذلك لأسباب ثقافية من صنع قرون من التواصل.

وهكـذا فإن تحول المغرب من بلد عبور إلى بلد مقام بالنسبة للأفارقة، يجسد المشكلة العويصة التي ستهيمن على الأجندة المغربية الأوربية في المدى القريب. وهـذا مصدر الانشغال من ناحيتين، من حيث ما تعنيه انعكاسات كل ذلك من النواحي الإنسانية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية على صعيد العلاقات المغربية الأفريقية وعلى صعيد العلاقات المغربية الأوربية.