سعيدة جدا.. حزينة جدا

TT

ناديت الكتابة فلم تتيسر لي. تركت المحاولة وقلت: ما ينتقل حرف عن حرف إلا بأمر الله. تنقلت بين الأخبار والكاتبين وأنجبني الحزن الشديد ذاتا سعيدة جدا. ولم لا؟ أفلم أنجح في ألا أكون واحدة من الكاتبين الواقعين تحت مرض «اضطهاد ذات الأمة»؟

هناك شيء اسمه «نقد الذات»، هذا الذي يجب أن نمارسه جميعا بصورة أو بأخرى، وعندما يقع الإنسان في تجربة قاسية يزداد انتقاده لذاته، ويقول علماء النفس، عندئذ، أننا نتمتع بدلائل الصحة النفسية، لكن عندما تخرج حدة الانتقاد الذاتي إلى ما هو أشبه بالسياط اللاهبة بالتسفيه والتحقير وإدانة جوانب لا تستوجب الإدانة، إذ هي في أصل أساس الشخصية، عندها لا تكون هناك صحة نفسية بل عوارض لمرض «اضطهاد الذات»، وبقدر ما يساهم النقد الذاتي في تصحيح النفس ونهضة الشخصية، يقوم اضطهاد الذات بالإجهاز على النفس وسحل وتقويض الشخصية.

منذ داهمت أمتنا، أمة العرب والمسلمين، النكبات والإخفاقات كان من الطبيعي، ومن الصحي، أن نلتفت إلى أنفسنا ونشير: هذا عيبنا وهذا خطؤنا وما كان يجب وكان لابد .. وما إلى ذلك، ولقد امتد هذا النقد الذاتي على مساحة الأمة، لم يختص به المثقفون أو الكتاب والكاتبون، وإن كان منهم من نجح في مهمته فلأنه كان من الذين استطاعوا أن يلتقطوا وجد الأمة ويعبروا عنه كما هو زاخر في قلب الناس، وهؤلاء هم الذين جاء نقدهم بحماس أو غضب لا ينقصه عقل تفعمه الطيبة والغيرة والحنان والأمومة: تفعمه الثقة بأصالة هذه الأمة، ومعرفة بتاريخها وحضارتها وثقافتها، وفهمه لمعتقداتها التي تؤمن بها وتعض عليها بالنواجذ.

إلا أن الأمر لم يسلم، في الماضي وفي الحاضر، من مندسين، من مرضى «اضطهاد ذات الأمة»، في صورة كاتب أو فنان أو مقدم برنامج في مذياع سمعي ومرئي أو مقرر نشر أو في أية صورة من صور الترويج وغسيل المخ، ليكتب ويقول أشياء يدعي بها مساهمته بخدمة أو خدمتين في النقد والتوجيه والنصح والإرشاد ويبخ كلاما تفضح رائحة بخاره سرها وسره: رغبة شريرة في الإجهاز على كبرياء وكرامة الأمة وتقويض شخصيتها وحقن شعبها بالقابلية للاستذلال والخضوع حتى الانسحاق والدمار الشامل، ولحسن الحظ أن هذا مستحيل غير أنه يملؤنا بالغم والتقزز كلما صادفناه وسط أكوام الكلمات المطبوعة والمسموعة والمشاهدة.