قليل من الدموع النبيلة!

TT

كنت في محطة سكة حديد روما.. أجمل مكان في روما كلها ـ هذا رأيي. ففيها كل الدنيا تجري هنا وهناك.. كأنها يوم القيامة ولكن كل واحد يعرف هدفه. ولو نظرت إليهم لتخيلت أنهم مجموعة من المجانين ليس من بينهم اثنان قد اتفقا على وجهة واحدة.. والحقيقة أنهم جميعاً هدافون.. وأنا أحب منظر القطارات القديمة التي لها بخار ودخان وصوت وإرادة وحماس واتجاه وعزيمة من الحديد فوق الحديد.. أحب منظر القطار وهو رابض على القضبان الحديدية. أسد في عرين. قاض على منصة.. ملك بلا عرش..

وأتصفح الوجوه ولا يلفتني إلا إذا كانت لها ملامحها.. وملامحها أنها شقراء ناعمة البشرة زرقاء العينين ذهبية الشعر تمشي على مهلها. وإذا توقفت وقفت كلها. وتحركت ببطء. كأنها تمثال ما زالوا يثبتونه على الأرض.

وتتلفت حولها كأنها تتوقع الجماهير. فإذا لم تجد الجماهير رفعت ذراعيها كما يرفع الطائر جناحيه.. أو كما يرفع المايسترو عصاه. ينتقي النغمات ويوزعها. ونظرت حولي لم أجد سواي. ولما تقدمت ناحيتها أنزلت ذراعها جناحاً إلى جناح آخر.. وسكتُ وسكتتْ وأشارت إلى سيارتها.

فركبت ونسيت أن أقبلها فقبلتها على خديها وكتفيها ويديها، ولم يبق سوى أن أقبل ثوبها أيضاً.. وما زاد على هذه القبلة ألقت بها على كفي.. حمداً لله على سلامة وصولها وخروجها من المستشفى فقد تعافت تماماً.. فلم يكن سهلا عليها أن تمشي في جنازة أبيها وأختها وأمها فقد ماتوا جميعاً في برلين.. ولم أرها تبكي من قبل. فأخفيت دموعي خجلا منها. وإعجابا بها بشعبها وتاريخهم وحضارتهم.. ودموعهم القليلة!