الفتاوى السياسية.. وأدلجة الدين

TT

قرأت أخيراً عن مساجلات بين عدد من علماء من الباكستان حول تحريم «التفجيرات أو العمليات الانتحارية» من عدمه، وحول ما إذا كانت الفتاوى التي أصدرها بعضهم تختص بباكستان فقط أم يمكن تعميمها حول العالم. ويبدو أن اعتراض البعض على التعميم ينبع من تخوّفهم أنه قد يحرم المسلمين في أنحاء العالم من ممارسة هذا الأسلوب الذي أودى بحياة الآلاف من المسلمين عبر العالم.

وفي هذا الزمن الذي أصبحت فيه الفتاوى الدينية من القوة بحيث لا تلعب دور تحريض الشباب على الانضمام إلى الجماعات المسلحة والقيام بعمليات انتحارية فقط، ولكن نلمس تأثيرها في توفير الدعم المالي واللوجستيكي أيضاً، يجدر بنا النظر في دور الأديان في المجتمعات وكيف يمكن أن تُختطف لأغراض سياسية ومصالح دنيوية. فليس ثمة شيء أخطر وأكثر تأثيراً في حياة البشر من الأديان. فهي قد تكون عامل بناء أو عامل هدم، وكل ذلك يعتمد على مقاربتهم لها وطريقة تفسيرهم واستخدامهم لقيمها وتعاليمها. فهي تحمل في طيات تفسيراتها سعادة للبشرية أو شقاء لها. والأمر في النهاية يعتمد على المفسّر أو المستغل ليس إلا.

والأديان في أفضل حالاتها منابع القيم الروحية والأخلاقية ومبعث روح الإخاء والمحبة والسلام والعمل والبناء الابتكار والإبداع والإيثار والتضحية.. حتى أن إماطة الأذى عن الطريق لها مكانتها ومغزاها النفسي الفردي والمجتمعي في الدين الإسلامي. وتصبح الابتسامة صدقة والصدقة تكافلا.

والأديان قد تكون دليل الإنسان إلى قيم العدل والمساواة والتآخي البشري وتحرير الإنسان من عبودية البشر والمادة والتسامي نحو الأعلى والكمال، وفي أسوأ حالاتها تتحول إلى أيديولوجيات سياسية يسخرها الإنسان لخدمة أغراضه وتحقيق مصالحه والتسلط على الناس باسم المقدس.

والدارس لتاريخ الأديان يدرك كيف ساهم الدين في بناء الأمم وإقامة الحضارات ونشر الخير، كما يشهد التاريخ أيضاً كيف استخدم الإنسان الدين لشن الحروب وتقديم تفسيرات لممارسات ومصالح قومية أو قبلية أو عشائرية أو طائفية لا علاقة لها بالقيم بقدر علاقتها بالمصالح.

ويمكننا أن نسرد من تاريخ الأديان القريب والبعيد أمثلة مروّعة جعلت من الأديان ايديولوجية للحرب والتناحر والمجازر. فكيف أصبح الخلاف السياسي على السلطة في التاريخ الإسلامي بناء على رؤية بشرية سياسية مصلحية معينة أمرا يتم التأطير له سياسياً ويُشرعن له دينياً في مجتمع تدعو تعاليم الدين فيه إلى الترفع عن المنافسة على المناصب وطلب الجاه والسعي للنفوذ والسلطان. ونعرف من التاريخ ما نتج عن ذلك من حروب وصراعات لا تزال تجر ذيولها حتى يومنا هذا.

وكذلك الحال في اوروبا حينما حاولت الكنيسة صرف أذهان الناس عن مفاسدها ومصادرتها للعقل ومحاربة العلم باسم الدين، فلجأت إلى الحيلة القديمة الجديدة لصرف الناس عن مشاكلهم الداخلية وقضاياهم المحلية الملحة وخلق عدو خارجي يصبح بؤرة الاهتمام ومنبع التحدي. ونتيجة لرغبتها في توسيع دائرة نفوذها وبناء امبراطوريتها الدينية.. عندئذ شرعنت الكنسية باسم الدين الحملات الصليبية في القرون الوسطى ومحاكم التفتيش في الأندلس بعد ذلك. والبقية تجدونها في كتب التاريخ.

والتاريخ المعاصر مليء بالأحداث التي انتهكت فيها الحرمات وصودرت فيها الحريات وكممت فيها الأفواه وارتكب الناس الممارسات العنصرية باسم الدين.

ولكن في الوقت نفسه ساهمت قيم الدين الحضارية في بناء حضارات ودفعت الإنسان إلى ابداعات في المجالات العلمية والعملية.

ويشهد تاريخ بغداد والأندلس والهند، كما يشهد عصر النهضة في أوروبا على ذلك عندما تخلص الإنسان ليس من الدين وقيم الدين كما يعتقد البعض، ولكن عقب تخلصه من سلطة الكنيسة وأدلجة الدين وعندما تحرر الدين من عبودية الكنيسة وأصبحت قيمه حرة ومثمرة ودافعة للتفكير والعمل والعطاء. بعد أن كانت الكنيسة تعدم العلماء وتقتل الناس بفتاوى دينية جاهزة في جيوب رجالها. وللعلم فالفتاوى الدينية المؤدلجة لم تكن يوماً حكراً على المسلمين وحدهم، وإن اصبح لهم منها اليوم نصيب الأسد، بل كانت احدى الوسائل الفتاكة في ترسانات كل مؤدلجي الأديان وسارقيها بغض النظر عن دياناتهم.

إن أخطر أعداء الديانات هم بعض معتنقيها الذين يوظفونها لتحقيق مصالحهم أو لفرض تفسيرهم وايديولوجيتهم على الآخرين. فأخطر الأخطار التي تواجه الأديان ومعتنقيها على مدار التاريخ هي تفسيرات وممارسات معتنقيها. فباسمها يتم الصراع على السلطة والنفوذ والجاه وبحجة رفع راياتها تمارس الفظائع وترتكب المجازر، هل يمكن أن نقول إن فظائع الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش تمثل حقاً الديانة النصرانية التي جاء بها المسيح عليه السلام أو حتى التي تم تحريفها قليلا من بعده؟ هل النظرة العنصرية التي يفسر بها متطرفو الديانة اليهودية نظرتهم للعالم أو ممارسات اسرائيل تجاه الفلسطينيين تمثل حقاً الديانة اليهودية التي جاء بها موسى عليه السلام؟ هل يمكن ان نقول إن ممارسات ما يسمى بتنظيم القاعدة وتوابعه من الجماعات الارهابية المتطرفة اليوم من قتل وتدمير وإرهاب وترويع يمتد عبر العالم ويستهدف الجميع تمثل حقاً الديانة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟

أعود لمساجلات الفتاوى وأقول إن أخطر ما نواجهه نحن المسلمين اليوم هو الأدلجة المستمرة والتسييس الكامل للدين الإسلامي اليوم، فالإسلام أكبر من السياسة ومن الأيديولوجيا ومن محاولات توظيفه من قبل البعض في الصراعات العالمية أو الإقليمية أو القومية أو المحلية.

إننا نواجه اليوم محاولة لاختطاف الإسلام من قبل بعض معتنقيه اليوم وتحويله إلى أيديولوجية سياسية لا تختلف في كثير من تفسيراتها وتحليلاتها ونظرتها لنفسها وللعالم وممارساتها عن أيديولوجيا الحركات الثورية المتطرفة إلا باستخدامها للنص الديني في شرعنة أيديولوجيتها.

الخطير في الأمر أنه عند حقن السياسي بالأيديولوجي الديني يتحول السياسي إلى مطلقات مقدسة غير قابلة للحوار أو الجدل أو التفاوض، وتصبح الفتاوى هي المراسيم، والتكفير هو الأسلوب والسلاح هو الفيصل. فهل نعي الدرس ونرفض التلاعب بالأديان.

* كاتب أميركي

من أصل ليبي