أوباما يطارد القراصنة

TT

كثيرون ينسون أن لأميركا يداً طولى في ما وصل إليه الصومال اليوم. وأن قصة القراصنة ليس بريئاً منها جورج بوش بالخالص ولا والده من قبله. لا بل ان الكاتب مارتن فلتشر يعتبر في مقالة له كتبها مؤخراً في «جريدة التايمز» أن «تدخل بوش (الإبن) في الصومال بدعوى الحرب على الإرهاب فوت على هذا البلد أفضل فرصة للسلام خلال ردح من الزمان، مما أدى لقتل وتشريد وتجويع حوالي مليون صومالي وكانت النتيجة العكس تماماً من الهدف الذي تم التدخل من اجله». فالجماعات الإسلامية لم تضعف بقدر ما زاد نفوذها فوضوية وخطراً يصعب السيطرة عليهما. وفي غمار الفوضى يمكنك ان تنتظر قراصنة وإرهاباً وجوعاً، وضياعاً لطرف خيط يمكنك منه أن تنفذ إلى حل. فرغم تقاطر الأساطيل إلى خليج عدن، وغضب العالم أجمع من تهديد بضع مئات من اللصوص لممر بحري تعبره 20 ألف سفينة في السنة، يحمل بعضها ثلث النفط الخام الذي يضخ في شرايين الأرض، يبقى الجميع عاجزاً عن فعل أي شيء يذكر مع عصابات تنمو وتتسلح وتتمرس وراء التكنولوجيا، وبمقدورها ان تتعاون مع أي جهة مستفيدة بصرف النظر إن كانت إسرائيل أو إيران او حتى القاعدة. وهكذا تجد الدول العالقة بين أيدي القراصنة انها إن دفعت الجزية ساهمت في تمويل العصابات وتقويتها، وإن هي لجأت للقوة فالنتائج قد تكون وخيمة جداً وغير مأمونة العواقب، هذا عدا المخاطر البيئية الفظيعة التي تخشاها دول الجوار وخاصة كينيا، في ما لو اتخذ قرار بتحرير الناقلة النفطية السعودية عسكرياً، وهو أمر ما يزال عصيا.

فقضية القراصنة تحل من البر وبمساعدة الصومال على ايجاد توازنه السياسي الداخلي، وليس من الجو أو البحر، وبتقوية طرف ضد آخر. وكوارث العالم الحالية جاءت في مجملها بسبب «سوبرمانية» في التفكير. و«جيمس بوندية» في التنفيذ. ونحلم ان يكون تمنع الأسطول السادس الأميركي عن التدخل لوقف عمليات القرصنة بالقوة هي بداية وعي بحقيقة ان الأمور لا تأخذ كلها بالقمع والهيمنة. وقد كشفت جريدة «الشرق الأوسط» عن اتفاق بين الحكومة الصومالية المؤقتة وأميركا وقع عام 2006 يمنحها حق التدخل لحماية السواحل الصومالية، لكن يبدو ان أميركا لم تعد تريد مزيداً من المغامرات الفاشلة.

ولا يملك واحدنا إلا ان يسخر من القوة الكبرى التي تصول وتجول سفنها الحربية في منطقة تعج بالقراصنة وتختار التفرج بدل التدخل العسكري بحجة ان القوانين الدولية تمنعها من ذلك، وكأنما هذه القوانين كانت موضع احترام الأمم في السنوات القليلة الماضية.

نودع جورج بوش، ونودع معه على الأرجح مرحلة تاريخية شنيعة وأليمة، لم يبدأها هو لكنه بتصلبه وتطرفه كشف عورات نظام عالمي تواطأت غالبية كبرى على مداهنته، كان مستور العيوب بورقة توت، وبمظلة ديمقراطية مخادعة. وبوصول معبود الجماهير أوباما الذي ربما لن يتمكن من إنقاذ الكثير، تكتب «جريدة الفغارو» ان «طالبان باتت على أبواب كابول». وثمة مخاوف في العراق من ان يمتد خطر القراصنة إلى الخليج فيما العراقيون غارقون في انقساماتهم الطائفية ومشاكلهم الأمنية. وإسرائيل تسرب أخباراً تلو الأخرى عن ضربة تنويها لإيران ضاربة عرض الحائط بالموافقة الأميركية من عدمها. أما إيران من ناحيتها، فماضية وراء قنبلتها النووية تعلن كل يوم عن صواريخ جديدة يطول مداها. والمشكلة الفلسطينية التي يمكن ان تبيّض وجه أي زعيم وتدخله التاريخ تزداد تعقيداً بسبب الانشطارات الداخلية. وكل هذا قد يبدو سهلاً بالنسبة لأوباما أمام أزمة مالية تأكل البنوك والسيارات، فخر الصناعة الأميركية. وقد بات كثير من الخبراء يعتقدون ان حل هذه الأزمة سيكون مستعصياً لا بل مستحيلاً ما لم تقبل أميركا بتعديلات جذرية على نظام مالي عالمي ما زالت تعتبره مثالياً.

فقراصنة القرن الأفريقي، قد لا يكونون سوى صورة بدائية عن قراصنة «وول ستريت» الذين يبتلعون المليارات في حمى القانون. فدائماً كان ثمة قراصنة في هذا العالم منهم من يعصبون عيناً ويتركون الأخرى مهددين بمنجل من حديد، لزوم التخويف والتهديد، وآخرون يلبسون الياقات البيضاء والكرافاتات المزخرفة، والأحذية اللماعة وهؤلاء عملهم بحاجة لملمس من حرير.

وإذا كان قراصنة الصومال المساكين قد حصلوا فقط على 30 مليون دولار خلال سنة، وأخذوا عشرات الرهائن، فإن قراصنة البورصة الأميركية سطوا على مليارات يصعب عدها، وتسببوا في طرد الملايين من وظائفهم وخراب بيوتهم. وبحسب بعض الخبراء فإن كل ما اتخذ من إجراءات لإعادة الأمور إلى نصابها قد ينتهي بالفشل على الأرجح. فالخطة التصحيحية للوضع العالمي المالي، تعتمد على إعطاء المستثمرين مئات المليارات من أموال دافعي الضرائب كي تسير العجلة الاقتصادية. لكن ما يحدث عملياً ان المستثمرين يقبضون الأموال من جهة ويسرحون عدداً كبيراً من موظفيهم من الجهة الأخرى. وهذا يعني ان القدرة على الاستهلاك تنخفض بشكل كبير. فلمن ستنتج المصانع الممولة؟ ولماذا؟ ما دام الموظفون يطردون من أعمالهم وتفرغ جيوبهم. وكيف نضمن عدم الوقوع في حالات إفلاس جديدة وسريعة، ما دام المستهلكون يتقلّصون، والجمود مايزال سيد الموقف؟

يقول البروفسور ميشال شسودوفسكي، مدير مركز الأبحاث حول العولمة وأستاذ الاقتصاد في «جامعة اوتوا» اننا «بهذه الإجراءات ندور في حلقة مفرغة، والحل لن يتبلور إلا بـ(نزع سلاح وول ستريت) وخفض مستوى همينتها على سوق المال العالمي. هذا يعني تجميد أدوات المضاربة التجارية، وتفكيك بنيتها، لجعل الحياة المالية اكثر ديمقراطية ورحابة». وبمعنى آخر فإن أولوية أوباما لا بد ان تبدأ من هناك، والمؤشرات كلها تدل على ذلك. ويوم يصبح ثمة نظام عالمي يضبط القراصنة الحيتان، يصير صيد الأسماك الصغيرة سهلاً ومتاحاً. وإلى حينها، والانتظار قد يطول، لا بد للعالم بان يقبل بالمسكنات.

[email protected]