«العوممة»

TT

الأزمة الاقتصادية العالمية لا تزال تواصل تكشير أنيابها وتكسير أسواق المال الدولية وإثارة الفزع والقلق في نفوس الناس، سواء من كان مستثمرا في البورصات أو من يعمل بالساعة الواحدة. والحقيقة أن «نوعية» الكتابات والتحليلات التي تتناول الأزمة وأسبابها وأبعادها في الكثير منها، لا يمكن وصفها إلا بالغريب العجيب. فلو كان بالإمكان إرجاع بعض الشهادات الجامعية في تخصصات الاقتصاد وعلومه والمطالبة باستعاضة المصاريف والأموال الجامعية التي أنفقت مقابلها، لكان هذا اقتراحا وجيها جدا وجديرا بالتطبيق؛ لأن هناك الكثير من الاقتراحات المقدمة على أنها حلول ووسائل علاج للأزمة تنافي تماما أبجديات الاقتصاد الليبرالي الحر، الذي كان يُنادى به عبر تمجيد فتح الأسواق وإزالة القيود ورفع الرقابة والتدخل الحكومي. هذه كانت أسس العلوم الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، بالإضافة إلى التشجيع المحموم لفكرة الخصخصة، وبيع القطاعات الاقتصادية المملوكة من الحكومات لصالح قطاع الأعمال الخاص، وتحويل الحكومات إلى هيئات رقابية وتشريعية، وقد أتت هذه التجربة بنتائج مهمة وناجحة وأثمرت تحولات هائلة في اقتصاديات العديد من دول العالم، وانفتحت شهية الدول وبالغت في إزالة القيود والرقابة والتدخلات الرسمية، فأتاحت بذلك الفرصة لشهوة الجشع وغريزة الاستغلال من أحداث الأزمات والكوارث في الشركات والأسواق بشكل خطير وغير مسبوق، ولا يعرف حقيقة مقدار الأذى والدمار الذي حصل حتى الآن. وبسبب هول الصدمة وفداحة المشكلة تتجه الأنظار إلى الحكومات للعب دور المنقذ وإخراج الأسواق من براثن الأزمة وخناقها.

وها هي الحكومات بطريقة أو بأخرى تعاود لعب دورها القديم، فتعاود تملك الشركات والسيطرة على الأسواق وضخ البلايين من الدولارات بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة في بعض الشركات أو المحافظ الاستثمارية. إنه عصر القطاع العام وعصر الحكومات. إنه باختصار مرحلة «العوممة».. الحكومات اليوم ستكون مطالبة بإيجاد سلسلة من المشاريع العملاقة، والمشاريع التي تعين كافة القطاعات بدون استثناء. ولعل ما يطرحه الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما في نفس الاتجاه، فهو يطرح مجموعة من المشاريع الخاصة؛ بناء المطارات والطرق والجسور والمصافي والموانئ التي من شأنها أن تشغل كافة القطاعات بدون استثناء، وتوجد فرص للعاطلين عن العمل فتحسن بالتالي من مداخيل الشركات لتنعكس على قيمة السهم الشرائية بالأسواق فتعيد الصحة للبورصات. فشركات لا تنتج هي شركات لا تربح، وشركات لا تربح نتاجها بطالة واقتصاد راكد، وهذه عواقبها الاجتماعية وخيمة جدا. وهذه الرؤية (العوممة)، تتطلب فكرا ديناميكيا مفعما بالحيوية وسرعة اتخاذ القرار لأن الفساد والروتين كفيل بتدمير كل النوايا الحسنة مهما كانت مبهرة وأخاذة. إنها الآن مرحلة الحكومات العاقلة والحكم الرشيد والقيادة الحكيمة. وستظهر في هذه المرحلة العالمية نوعيتان من القيادة: قيادة مبادرة لا تقف جامدة وتستغل الكارثة وتنظر إليها على أنها فرصة إصلاحية تصحيحية لإعادة إطلاق عجلات الإنتاج والإدارة، وقيادة تابعة تقف مندهشة في عالم مدهش يشلها هول الصدمة ولا تملك إلا أن تتبع مجريات الأحداث وتقلد (بقدر الإمكان) ما يحدث من حولها. العالم يعيش مرحلة اقتصادية جديدة، ودع فيها مرحليا عصر الشركات والأسواق والمؤسسات والأفراد وعاد ليرحب من جديد بعصر الحكومات.

[email protected]