التشاؤم هو العدو الأكبر

TT

عندما نحكم على الأزمة الحالية من خلال التوجه العام السائد لدى وسائل الإعلام نجد أن الولايات المتحدة، ومعها باقي دول العالم، تسير باتجاه كساد كبير مشابه لما حدث عام 1929. يذكر أن إحدى المجلات الأميركية الشهيرة وضعت على غلافها صورة باراك أوباما وهو متنكر في زي فرانكلين روزفلت، ذلك الرئيس الذي يُنسب إليه، لأسباب غير معلومة، إنقاذ الولايات المتحدة والعالم من الركود. الرسالة خلف الصورة واضحة: نحن نعاني من ركود وأوباما هو روزفلت، ومن ثم فنحن مطالبون بأن نؤمن بأن التاريخ يعيد نفسه.

بيد أن النظر إلى الصورة عن قرب ربما يقدم لنا صورة مختلفة، فرغم كل الحديث عن الكساد، فإن الاقتصاد الأميركي، وإلى جانبه الوضع الاقتصادي العالمي، يبدوان في حالة أفضل عما كانا عليه قبل ربع قرن مضى، ناهيك من بداية الكساد عام 1929.

في عام 1980 عندما كان جيمي كارتر في طريقه إلى مغادرة البيت الأبيض استقر مؤشر «داو جونز» في بورصة نيويورك للأوراق المالية عند 700 نقطة، ووصل العام السابق إلى ما يقرب من 14000 نقطة قبل الهبوط السريع الذي شهده ليهبط إلى معدله الحالي 8000 نقطة، لكنه مع ذلك لا يزال يزيد بأكثر من 11 ضعفا عما كان عليه في العام الأخير من رئاسة جيمي كارتر.

وقد قفز التضخم إلى أكثر من 3 في المائة، وربما يصل إلى 4 في المائة بحلول العام المقبل، وقد يرجع ذلك، إلى حد بعيد، إلى ارتفاع أسعار النفط في الشهور الثلاثين الأخيرة. لكن التضخم ثبت في عهد كارتر عند 17 في المائة. أما معدل البطالة في الدول الصناعية الذي يقترب من 6 في المائة في الوقت الراهن، فقد استقر عند 11 في المائة عام 1980، بل إن بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا كانت تعاني من معدلات بطالة أعلى. وكانت معدلات الفائدة تقترب من الـ17 في المائة في تلك الأيام التي يفترض أنها «يام الماضي السعيد». واليوم، تراجعت معدلات الفائدة إلى 1 في المائة في الولايات المتحدة و3 في المائة في منطقة اليورو و0 في المائة في اليابان. في عام 1980 كان متوسط فائدة الرهن العقاري بالنسبة لمشتري المنازل في الدول الصناعية 21 في المائة، واليوم انخفض إلى 6 في المائة وفي الولايات المتحدة هبط إلى 4 في المائة فقط.

قد يعتقد البعض أننا لسنا في حالة كساد، لكنهم يؤكدون أننا نمر بحالة من الركود. وربما كان هذا القول صحيحاً، وربما لا. جدير بالذكر أن التعريف الأكاديمي للركود يشير إلى مرور ربعين متتاليين من العام يشهدان نموا سلبيا. بيد أن ذلك لم يحدث بالنسبة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة. أما دول منطقة اليورو فقد أعلنت عن تعرضها لحالة ركود جماعي. إلا أنه في هذه الحالة لا تبدو الصورة متسقة، حيث تعد فرنسا واحدة من بين اثنتين من دول منطقة اليورو لا تمر بحالة من الركود (الثانية هي إسبانيا).

إذاً كيف استطاعت فرنسا تحقيق تلك «المعجزة»؟ تكشف الأرقام أن الاقتصاد الفرنسي نما بما يعادل 600 مليون يورو في عام 2007، وهو ما يعادل كوب قهوة بالنسبة لشاربي القهوة الفرنسيين كل صباح، ولو أن الألمانيين والإيطاليين شربوا قدحا من القهوة كل صباح في عام 2007 لربما كانوا قد تجنبوا ذلك الركود المخيف الذي من المفترض أن نخشاه.

المشكلة مع علم الاقتصاد تكمن في أنه رغم استخدامه أدوات التحليل العلمي، إلا أنه غير قادر على تطبيق استنتاجاتها في ظروف معملية محدودة، فهنا غالبا ما تمتزج الأفكار العقلانية وغير العقلانية. بيد أن العقلانية لا تقف على النقيض من غير العقلانية، وإنما تنتمي إلى فئة أخرى فحسب. ويعرف الاقتصاديون من جميع المشارب القول المأثور بأن علم الاقتصاد هو العلم الذي يشعر فيه اللسان بالعذوبة لأنه كثيرا ما يقول إن الدنيا «حلوة». والعكس أيضا صحيح، فالوعود الدائمة بأن تلك الكارثة لن تنتهي، انتهت بخلق حالة من التوتر أثرت على قراراتنا. ودفع ذلك الشعور بالقلق غالبية الناس يتجهون إلى الحذر الزائد، ونتيجة لذلك توقف الكثيرون منهم عن طلب ذلك القدح الإضافي من القهوة، وبذلك التصرف سرقوا من الاقتصاد الفرنسي تلك الحافة الصغيرة التي حالت دون سقوطه في حالة الركود.

والملاحظ أن غالبية المواطنين في الدول الصناعية اتجهوا إلى الادخار وإعادة تدوير الأموال بدلاً من الإنفاق والاستثمار، خشية أن يظلوا بلا موارد في يوم عصيب، ما يخلق بالفعل، يوما عصيباً كانوا يرغبون في تجنبه. ويكشف التاريخ أن الحضارات التي تدخر وتعيد تدوير أموالها محكوم عليها بالهلاك كتلك المسرفة تماماً. ربما السبب وراء زوال الحضارة السومرية أنهم أسرفوا في ادخار وتدوير الأموال، وعلى الجهة المقابلة سقطت روما كإمبراطورية لأنها أسرفت بصورة أدت إلى إفلاسها.

خلف هذا المشهد من التشاؤم، يبدو افتتاح فندق فخم في دبي بحفلة بلغت تكلفة 25 مليون دولار غريبا إن لم يكن غير ملائم خاصة مع أجنحة يبلغ سعرها في الليلة الواحدة أكثر من 40000 دولار.

الكثيرون منا قد لا يدخلون فندقا كهذا، خاصة إذا ما كنا نخجل من التباهي، لكن الكثيرين من الناس يرغبون في إنفاق مثل تلك الأموال الطائلة يعد خبر جيد، ويحيي الأمل في تحقيق المزيد من الأموال في المستقبل.

بطبيعة الحال، تمثل الرأسمالية آيديولوجية الأمل: الأمل في أن يشتري ما يكفي من الأشخاص منتجاتك أو خدماتك الجديدة، وكذلك الأمل في أن يؤجل الناس استهلاكهم من السلع المختلفة لكي يمنحك ذلك المال الكافي لكي تستمر في إنتاج وتقديم البضائع والخدمات.

وليست الشيوعية عدواً للرأسمالية، ولا أي من الآيديولوجيات الأخرى التي تحدتها لقرون، وإنما عدوها هو التشاؤم الذي تتشدق به وسائل الإعلام على الدوام.

إن التشاؤم عدو مخيف، حتى بالنسبة لآيديولوجية الأمل، والمعركة لا تزال قائمة، ولذا لماذا لا نطلب ذلك القدح الإضافي من القهوة؟