ثقافة الكتاب العربي: التطورات والتحولات

TT

مع بدء فصل الشتاء، تتكاثر معارضُ الكتاب العربي في سائر بلدان المشرق والمغرب. ووحده معرضُ الكتاب بدمشق هو الذي يُقامُ في فصل الخريف. ومن خلال الكتب المنشورة في السنوات الثلاث الأخيرة يمكن رصدُ عشرات الظواهر من الناحيتين: الفكرية والفنية التقنية. بيد أنّ أبرزَ الظواهر ثلاث: كتب السياسة والاستراتيجيا والثقافة السياسية، والكتب التي تُعنى بالظاهرة الإسلامية، وكتب الأدب الروائي العربي. في المجال السياسي هناك ثلاثُ فئاتٍ من الكتب؛ الأولى التي تُعنى بتحليل ومتابعة السياسات الأميركية من خلال الإدارة البوشية، ومن خلال التصرفات في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة ـ والثانية الكتب التي تُعنى بتحليل الأوضاع السياسية والاستراتيجية في العالم العربي؛ بما في ذلك طبائع الأنظمة العربية وتطوراتها ـ والثالثة وهي الأقلّ من حيث العدد، تُعنى بالفلسفة السياسية وقيام الدولة في العالمين الغربي والإسلامي؛ بما في ذلك تأثيرات الحركات الدينية الجديدة في سياسات الدول، وعلائقها بالقوميات والإثنيات، وأدوار الدين الاجتماعية والسياسية في القرن الواحد والعشرين.

في الفئة الأولى من الكتب السياسية، وهي في الأكثر مترجمةٌ عن الإنجليزية والفرنسية، هناك خوضٌ مستفيضٌ في موضوع المحافظين الجدد، وأفكارهم وبرامجهم، وتأثيرهم القوي فيما اتخذه بوش من سياسات تُجاه العرب، وفي الشرق الأوسط. وهناك خَوضٌ طويلٌ عريضٌ في خلفيات حروب أفغانستان والعراق، والحرب على الإرهاب. وتُريدُ بعضُ التحليلات الوصول إلى أنّ سياسات الأوحدية القطبية هي سياساتٌ إمبرياليةٌ معتادةٌ، ما كان يُنتظرُ غيرُها حتى لو كان في السلطة الديمقراطيون وليس الجمهوريون. إنما الملحوظ أنّ هذه الكتب التي صدرت في الأكثر في الولايات المتحدة (وبينها ثلاثةٌ لبوب وودوارد) ظهرت حتى العام 2007، أو بين العامين 2003 و2007، وقد تُرجمت في السنتين الماضيتين. وقد زالت إدارةُ بوش الآن، وإن تكن تأثيراتُ سياستها مستمرةً لسنواتٍ قادمة. والذي أعنيه أنها مؤلَّفاتٌ مؤقَّتة القيمة، وأفادت في تغذية ميول الجمهور العربي ضد السياسات الأميركية، لكنها ما أفادت كثيراً في التعرف على طبائع النظام الأميركي. ولذا فقد فوجئ شبانٌ عربٌ كثيرون، ومن الإسلاميين على وجه الخصوص، بفوز الأسود أوباما في الانتخابات الأميركية، رغم سوء النظام الأميركي وعنصريته وإمبرياليته! وفي حين ذهب كثيرون إلى أنّ الأمر لا يعني شيئاً، والطبيعة العدوانية للولايات المتحدة ستظلُّ هي نفسها، رأت قِلّةٌ أنّ هذا التغيير البارز قد يؤدي إلى إعادة النظر في السياسات الأميركية السابقة تُجاه العرب والعالَم. أمّا الأزمةُ الماليةُ العالميةُ، فلا تبدو في المنشورات التي يعرضُها معرضُ بيروت للكتاب العربي والدولي، والذي افتُتح اليوم الجمعة. فقد كانت الفترة قصيرة، ولا تسمحُ بالترجمة العاجلة؛ ولذا فقد اقتصر الأمر على مقالاتٍ وترجماتٍ لمقالاتٍ في الصحف اليومية السيّارة.

أمّا الكتب المعنيةُ بالأوضاع في العالَم العربي فهي كثيرةٌ ولها شعبية. لكنها باستثناء لهجتها التشاؤمية لا تَعْرِضُ جديداً بارزاً إذ هي تستمرُّ منذ مطالع القرن الحادي والعشرين في التأكيد على تكلُّس الأنظمة، وعلى غياب أو ضعف المجتمع المدني، والأحزاب السياسية المعارضة. وقد غابت عن التأليف والترجمة في السنوات الثلاث الأخيرة كُتُبُ وتحليلاتُ النقد الديمقراطي والأمل الديمقراطي والدستوري. بيد أنّ الذروةَ في هذا النوع من الكتب كانت في التقرير الرابع (2006) عن التنمية العربية. فهو كما يشير إليه العنوان كان خاتمة سلسلةٍ استمرت خمس سنوات، وشكّلت قراءةً نقديةً جذريةً للأوضاع المعرفية والتعليمية، وأوضاع الحريات وحقوق الإنسان، وأوضاع المرأة والطفل، وأوضاع التنمية الاقتصادية. وكما سبق القول فإنّ التشاؤمَ يتجلى في نقطتين: بيان الوضع الحالي والمستمر منذ عقود، والافتقار إلى أفقٍ تنمويٍ مستقبلي لدى القائمين على الأنظمة وفيها، ولدى المعارضين المثقفين والسياسيين.

أما الفئةُ الثالثةُ من الكتب السياسية أو ذات المنحى السياسي؛ فهي تلك التي تُعنى بالفلسفة السياسية أو الفلسفة الكامنة وراء فكرة الدولة والنظام السياسي. وقد قامت عدةُ دُورٍ عربية محترمة بترجمة عددٍ من مؤلّفات المفكرين السياسيين النهضويين بالغرب منذ القرن الثامن عشر. بينما قامت دُورٌ أُخرى بإصدار كتب مؤلّفة أو مترجمة عن نُظُم وشخصيات في العالمين العربي والإسلامي قديماً وحديثاً. ولهذه الكتب فوائد كبرى وبارزة، لأنها لا تتّسِمُ بطابعٍ آنيٍ أو مؤقَّت، كما أنها تُسْهم في رفْع الوعي بمعنى الدولة والنظام؛ وبخاصةٍ بعدما عانتْه الدولةُ العربية، والتجربة السياسية العربية، من نكَبَاتٍ وجروح خلال العقود الماضية. والمعروف أنّ الدكتور عبد العزيز الدوري مؤرّخٌ كبيرٌ وليس مفكراً سياسياً. لكنْ بمناسبة بلوغه التسعين هذا العام، قام مركز دراسات الوحدة العربية بإصدار أعماله الكاملة في عشرة مجلدات، وهي تمتدُّ ما بين العامين 1945و 2000. وهي تُسهم بمعنىً من المعاني برفع الوعي وتوسيعه بمعنى الدولة والأمة والتاريخ في المجال العربي الإسلامي. بينما قامت دار الكتاب الجديد(= دار المدار الإسلامي) بإصدار ترجماتٍ لكتبٍ مهمةٍ في الفلسفة السياسية، وفلسفة العلوم، وكذلك الأمر مع المؤسسة العربية للترجمة، والتي صارت كتبها الفلسفية والمعرفية والسياسية ظاهرةً لها معنىً في التجربة الثقافية العربية المعاصرة، خلال فترةٍ قصيرة.

وتشغل الظاهرةُ الإسلاميةُ أو ما تزالُ تشغل حيّزاً كبيراً في إصدارات العامين 2007 و2008. وبين المنشور عنها عدةُ مؤلَّفاتٍ عن القاعدة وتنظيماتها وسياساتها ومستقبلها. لكنْ كما هو واضحٌ من عناوين المؤلَّفات؛ فإنّ القائمين عليها كانوا في الأكثر من الصحفيين ورجالات الاستراتيجيا والاستخبارات. ولذا لا يمكن التحقُّق من كثيرٍ من المعلومات الواردة، والتي لا تفتقر إلى الإثارة. لكنْ ليس هناك حديثٌ مستفيضٌ عن قُدُرات القاعدة وطالبان وسائر الجهاديين، وهل ما تزال تلك التنظيمات قادرةً على الاستنفار والاستثارة والتجنيد، والوجوه المتعددة أو المتفاوتة للحرب عليها، وما يمكنها الإفادةُ منها في نطاق تلك الحرب.

وتبرز في مجال الظاهرة الإسلامية المؤلَّفات عن النهوض الشيعي، وعن ولاية الفقيه، وعن معنى السياسات الإيرانية ودوافعها الدينية والقومية والاستراتيجية. وبين النشاطات البارزة في مجال العناية بظاهرة النهوض الشيعي، كثرة المجلاَّت العلمية والثقافية الشهرية والفصلية، والتي تُصدرُها مؤسَّساتٌ نشريةٌ في لبنان والبحرين وإيران.

لكنّ اللافتَ أيضاً نوعٌ ثالثٌ من المؤلفات من حول الظاهرة الإسلامية. وهو يتعلقُ بمؤلفاتٍ كثيرةٍ تقترح تفسيراتٍ جديدة للإسلام التاريخي والآخر المُعاصر. ويتنافسُ في هذه الإصدارات والتأويلات المؤلّفون الغربيون والإسلاميون. ولا يخلو الأَمْرُ من بعض المؤلَّفات التي تعرضُ رؤىً نفّاذةً، بيد أنّ الغالبَ عليها الغرابة أو الإغراب، واقتراح حلول سحرية أو شبه سحرية. والملحوظ أنّ سائر دور النشر تُسارعُ إلى ترجمة الدراسات عن الإسلام المعاصر؛ بخاصةٍ الحركاتُ الإسلاميةُ في آسيا الوسطى وشرق آسيا. إنما الملحوظُ أيضاً أنّ هناك ميلاً ـ ربما كان متسرِّعاً ـ لاعتبار الإسلام الأُصولي أو السياسي، وراءَنا. وعلى أيّ حال فإنَّ الظاهرة الإسلامية ما تزال الشغل الشاغل لسائر المفكّرين العرب؛ وربما كان ذلك هو الذي دفع محمد عابد الجابري إلى إصدار تفسير للقرآن والذي ما اكتمل بعد، كما دفع الدكتور طريف الخالدي لترجمة القرآن من جديدٍ إلى الإنجليزية ترجمةً عذبةً وجميلة ـ ودفع المفكر الكبير عبد الله العروي أخيراً إلى إصدار كتابه في «السُنّة والإصلاح».

وإلى ذلك فإنّ الفنّ الروائي العربي يلقي رواجاً واسعاً. إذ تكثُرُ فيه الرواياتُ المُبدعة، والتي تحصُلُ على جوائز عربية وعالمية، كما أنّ أعداد الروائيين العرب الشبان تزداد وبإنتاجٍ جيدٍ في نطاق مدارس السرد وممارساتها. والأمر البارزُ الآخر: إقبالُ الأوروبيين والأميركيين على ترجمة الروايات العربية للروائيين الشبان إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية.

هناك ازدهارٌ مستجدٌ في النشر لجهة الكميات، وتنويع المجالات، وفي صناعة الكتاب، وفي طرائق التوزيع. وما يزال الناشرون يشكون من عدم إقبال القارئ العربي. لكنّ عشرات الألوف بالتأكيد يُقبلون الآن على الكتب المترجمة، وعلى النصوص التُراثية، وعلى الروايات.