التعددية من دون تنافس.. والتنافس من دون تعددية

TT

قدمت الحكومة الكويتية استقالتها لأمير البلاد إثر الطلب الذي تقدم به ثلاثة نواب سلفيين لاستجواب رئيس الوزراء، وسط إشاعات بإمكانية حل البرلمان الكويتي للمرة الثالثة خلال عامين.

وإذا كان أمير الكويت الشيخ صباح، قد أكد أن حل المجلس النيابي غير مطروح حاليا، إلا أن حادثة طلب الاستجواب خلفت أزمة حادة في الشارع السياسي الكويتي.

صحيح أن الظاهرة في ذاتها صحية وتدل على حيوية البرلمان الكويتي على عكس اغلب البرلمانات العربية الجامد المستكينة، إلا انه في كل مرة تحدث مثل هذه الأزمة على خلفية استجواب وزير أو عدة وزراء، يكون السبب مستغربا، لا يتعلق بأمر جوهري من أمور الدولة أو الاقتصاد أو التفريط في السيادة والأمن، كما هو الشأن المتبع في الديمقراطيات العريقة.

فبالنسبة للازمة الأخيرة، كان سبب استجواب رئيس الحكومة هو السماح بدخول رجل الدين الإيراني محمد الفالي، بحجة انه ممنوع من الدخول للكويت، لاعتبارات تتعلق بآراء منسوبة إليه تسيء للصحابة (مما هو مألوف لدى بعض الغلاة الشيعة، وان كان الرجل نفى هذه التهمة).

وفي مرات سابقة كان سبب الاستجواب، صور اعتبرت خادشة للحياء أو كتب معروضة في معرض الكتاب أو اعتداء على طالبة في الجامعة، مما يحدث يوميا في كل البلدان من دون أن يكون مدار أزمة سياسية أو دستورية.

هل يعني الأمر أن الكويت أصبحت خالية من الموضوعات المهمة التي تستحق النقاش والمساءلة، وان الوزراء أتقنوا كل مسؤولياتهم، ولم يبق لهم أن يحاسبوا إلا على جزئيات الأمور التي تخص إدارات الأمن والرقابة على المطبوعات؟

إن همنا هنا ليس الوقوف ضد حق دستوري مكفول لنواب الشعب، بيد أننا نعتقد أن التجارب الديمقراطية القليلة الناجحة في العالم العربي تستدعي التحصين من شوائب التطرف، وفي مقدمتها التطرف الديني الذي يؤجج عوامل التفرقة والصدام داخل المجتمع بتحويله القضايا المذهبية الخلافية والأخطاء الفردية الجزئية إلى أساسيات جوهرية تقنع وتموه الرهانات المحورية في الحقل السياسي، وتقضي على منافذ التعددية بفرض صوت واحد باسم الدين الذي هو ميدان انتمائي مشترك.

اندلعت الأزمة البرلمانية الكويتية في الأسبوع نفسه الذي صادق فيه النواب الجزائريون من غرفتي المجلس التشريعي على تعديل دستوري يسمح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالرئاسة مدى الحياة، بإلغاء المادة التي تحد المأمورية الرئاسية بدورتين. وبهذا التعديل الذي كان متوقعا، يجري الالتفاف على الآلية الدستورية الوحيدة التي كانت تضمن التناوب السلمي على السلطة في النظام الرئاسي الجزائري الذي أخذ على غرار النظم الجمهورية العربية إجمالا بمقاييس دستور الجمهورية الفرنسية، الذي وضعه الجنرال ديغول عام 1958. والمعروف أن هذا الدستور الذي خضع لمراجعات كثيرة (آخرها في عهد الرئيس الحالي ساركوزي) يكرس السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية في الفترات العادية التي يتمتع فيها بأغلبية برلمانية، ما دام بيده حق التعيين في كل الوظائف المدنية والعسكرية وحل البرلمان ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء ورئاسة الحكومة وليس مسؤولا أمام المجلس النيابي.

وإذا كان النظام الرئاسي المطلق لا يشكل خطرا جوهريا على الشكل الديمقراطي للحكم في البلدان ذات الإرث الليبرالي العريق، فإن الوضع مختلف في البلدان ذات التركة الاستبدادية الطويلة، كما هو شأن البلدان العربية.

أما في الأنظمة الملكية الدستورية التي شهدت بعض الانفتاح السياسي، فإن مشكل التداول على السلطة غير مطروح نظريا، نتيجة للطابع الوراثي للحكم ولطبيعة دور الحاكم بصفته حكما في الصراع السياسي. ويندرج النظام السياسي الكويتي في هذا السياق، على شاكلة النظام السياسي في المغرب والأردن. وفي التسعينيات كان بعض الناشطين السياسيين العرب يعلقون ببعض السخرية على حالة الوضع العربي، الذي يشهد مفارقة مثيرة، تتلخص في مفارقة تحول الجمهوريات العربية إلى ملكيات وراثية والانفتاح المتزايد للملكيات العربية.

ولا شك أن الحالتين الجزائرية والكويتية تحيلان إلى مأزقين من مآزق التحول الديمقراطي في العالم العربي: مأزق التعددية من دون منافسة، ومن دون أفق للتبادل السلمي على السلطة، ومأزق الديمقراطية الانتحارية أي تحويل فضاء التعددية والمنافسة إلى أرضية للقضاء على المثل والقيم الليبرالية التي هي نقطة ارتكاز وحماية النظام الديمقراطي.