لماذا رفضت الدول الغربية.. حماية الأنبياء من الإساءة ؟

TT

«تنظر اللجنة بقلق عميق إلى الحملة الشاملة التي تستهدف تحقير الأديان والأنبياء، كما تنظر بقلق عميق إلى انتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب الذي غالبا ما ينسب إلى الإسلام: خطأ وافتراء، ويدخل في ذلك: التمييز العرقي والديني تجاه الأقليات الاسلامية. وهي ظاهرة تكثفت منذ التطورات المأساوية التي وقعت في 11 سبتمبر 2001».

هذا هو موجز القرار الذي اتخذته (لجنة حقوق الإنسان) المنبثقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي.. وهو قرار صدر بأغلبية 85 صوتاً ضد 50 صوتاً. فمن هم (الضد) الذين رفضوا قرارا يصون قداسة الأديان والأنبياء من السفه والانتهاك؟

الرافضون ليسوا الشيوعيين، فقد صوتت الصين وكوبا لصالح القرار!!.

إنما الرافضون هم الدول الغربية كلها ـ بلا استثناء ـ وكأنهم تواصوا بـ (استباحة) قداسة الأديان والأنبياء!.

ومتى وقف الغربيون جميعا هذا الموقف الغريب المريب؟

فعلوا ذلك، قبل أن تنطفئ شمعات مؤتمر الحوار بين الأديان الذي عقد في ظل الأمم المتحدة في نيويورك قبل أسبوعين تقريباً.

لنفترض أن شعار حوار الأديان بعيد عن الابتزاز أو الاستغلال السياسي، بمعنى انه لا يوجد من يسخِّر هذا الحوار في خدمة قضايا سياسية وإعلامية.. ولنفترض ـ من ثم ـ أن الحوار بين أتباع الديانات (محصور) ـ بالضبط ـ في ايجاد (مناخ صحي نظيف مجرد مفعم بالرقي والتهذيب والحكمة والسماحة في التعامل الكريم مع قداسة الأديان وأنبياء الله ورسله).. ثم ليسأل كل عاقل: ما هي الركيزة الأولى في صناعة أو إيجاد هذا المناخ الطيب الراقي؟.. والجواب الصدوق الأمين السمح هو: ان الركيزة الأولى هي (الاجماع العالمي على احترام الأديان والأنبياء والمرسلين).. فهذا الاجماع هو الهدف البدهي لمثل هذا الحوار، وإلا فما معنى الحوار، وما جدواه، وما أثره الايجابي على العلاقة بين اتباع الديانات؟.

وفي ضوء هذه القناعات الدينية العقلانية الحضارية المشتركة، كان المتوقع ـ بالمعيار العقلاني والأخلاقي ـ: أن يكون قرار لجنة حقوق الانسان الأممية حول حماية الأديان والأنبياء من السفه والتطاول، كان المتوقع ان يصدر هذا القرار بـ (الإجماع) من حيث انه تعزيز وتأصيل لاتجاهات الحوار العادل والمحترم.. لكن الدول الغربية كافة سارت في الاتجاه المضاد، وهو مسير له سوابق في مؤتمر الحوار بين الأديان نفسه. فهذه الدول نفسها قد أصرت يومئذ على ألا يتضمن بيان المؤتمر ما يصون مقام الأديان والأنبياء من الاساءة والقدح والقذف.

لماذا؟

لأن ذلك يتعارض، بزعمهم ـ مع (حرية الرأي والتعبير)!! والاحتجاج بحرية التعبير إنما هو احتجاج بمفهوم (طوباوي) أو وهمي، يروج ويسوق له: استخفافا بعقول العامة، بل بعقول الصفوة من الناس. بدليل ان هناك قضايا وموضوعات ومجالات: تكبت فيها حرية التعبير كبتاً شديداً وصارماً.. وهذه وقائع حاسمة لا مرد لها.

1 ـ في أوروبا نفسها: حكم على المؤرخ البريطاني ديفيد ايرفنج بالسجن: بتهمة انه نفى محرقة اليهود (الهلوكوست) في العهد النازي.. ماذا فعل ايرفنج حتى يسجن؟.. لم يسرق.. ولم يتهرب من الضرائب.. ولم يخن بلده. كل ما فعله ـ بحكم تخصصه التاريخي ـ انه قال: «إن المحرقة لم تكن موجودة بالصورة المرسومة في بعض المراجع والادبيات السياسية والثقافية والدعائية».. إن الرجل سجن ـ وشهر به أيما تشهير ـ لأنه مارس حريته في (التعبير العلمي) أو التاريخي. بدليل انه هو نفسه قد قال ـ أمام المحكمة ـ: «إن التهمة الموجهة إليَّ تعني مصادرة حقي العلمي في حرية التعبير».

2 ـ من هذه الوقائع: ان (كبت حرية التعبير) فيما يتعلق بالهلوكوست: أمر سائد في أوروبا كلها، بمعنى انه محظور على الجامعات ومراكز البحث التاريخي والسياسي: ان تتناول مسألة الهلوكوست بمنظور يخالف (المسلّمات) اليهودية أو الصهيونية.. ويمكن صياغة هذه الفقرة على النحو التالي: في أوروبا اليوم ما يمكن وصفه بمحاكم تفتيش جديدة تحظر البحث في الهلوكوست، وتمحيص وقائعه بمقياس المنهج العلمي الحر. ومن ضبط متلبسا بهذا المحظور: شوه وحوكم وسجن!!.

3 ـ إن (قداسة) الهلوكوست انتقلت أو صعدت إلى الأمم المتحدة نفسها. ففي مثل هذا الشهر من عام 2005 اتخذت الجمعية العامة

للأمم المتحدة قرارا يعلن ويوكد ما يلي: «تؤكد الجمعية العامة للأمم المتحدة على رفض أي إنكار كلي أو جزئي لوقوع المحرقة كحدث تاريخي.. وتحث الأمم المتحدة الدول الأعضاء على وضع برامج تثقيفية لترسيخ الدروس المستفادة من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المقبلة واتخاذ اجراءات لتعبئة المجتمع المدني من أجل إحياء ذكرى هذه المحرقة»!!.

وهنا ترتسم المفارقات، بل النقائض المذهلة.. فالدول الغربية هي التي كبتت حرية التعبير في ديارها تجاه ما يتعلق بالمحرقة، وهي نفسها التي قادت الحملة في الأمم المتحدة لتصدر القرار الآنف، أي أن الدول الغربية (جاهدت) ـ بلا كلل ـ من أجل حماية (قداسة) الهلوكوست من (النقد العادي) ـ الذي هو من بدهيات حرية التعبير ـ بيد أن هذه الدول ذاتها هي التي عارضت ـ بصرامة ـ قراراً يصون قداسة الأديان والأنبياء.. ويُستنتج من هذه المواقف المتناقضة:

أ ـ إما أن قداسة المحرقة لدى هؤلاء الناس أعظم من قداسة انبياء الله ورسله.

ب ـ وإما أن حرية التعبير (أكذوبة) أو أداة تتلون بلون الموقف السياسي والفكري، فهي معظّمة ممارسة إذا تعلقت باستباحة مقامات الأنبياء، وهي مهيضة أو مكبوتة أو معدومة إذا تعلقت بالهلوكوست!!

ج ـ وإما أن حكاية (حرية التعبير) غطاء لما هو مكنون أو مضمر وجوبا أو سياسة ـ من حيث أن الجهر به محرج أيديولوجيا أو سياسيا.. ومع عدم استبعاد الاحتمالين الأولين، فإن الاحتمال الثالث أكثر رجحانا.. والاحتمال الثالث هو: أن سبب رفض حماية مقامات الأنبياء والمرسلين هو: ان هذه الحماية تتضمن (الاعتراف بنبوة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم)، وكأنهم يقولون ـ بلسان الحال ـ: كيف نوافق على قرار أو توصية تعني ـ ضمنا ـ الإيمان بنبي هو عندنا غير نبي!!.. إننا نخشى ان يكون مثل هذه التوصية جزءا أو مدخلا إلى الاعتراف بنبوة نبي الإسلام!.. وهذا استنتاج مؤيد بمعلومة صحيحة وهي: ان مؤسسة كنسية كبرى اعترضت بشدة على فقرة وردت في بيان واحد من مؤتمرات حوارات الأديان. وكانت هذه الفقرة تشير إلى احترام وتعظيم الأنبياء والرسل أجمعين.. وقد انصب الاعتراض على ان تلك المؤسسة لا تعترف بالنبي الخاتم أصلا، فكيف توافق على ما يتناقض مع عقائدها الأساسية؟.. هكذا قالوا!!.. وهذه قضية كبرى ـ من قضايا الحوار ـ لأنها ترتبط ـ بعمق ـ بالمناخ الأعظم للحوار وهو (التسامح). ولذا يتعين الجهر بالحقيقة التالية وهي: ان المتسامح الحقيقي هو الذي يؤمن بـ (الحق كله). وهذا الحق ـ ها هنا ـ هو الايمان بالأنبياء والرسل أجمعين دون انتقاء ولا استثناء.

إن المسيحيين في العالم يتأهبون للاحتفال بميلاد سيدنا المسيح عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم.. ونحن المسلمين نؤمن به نبياً رسولاً وجيهاً في الدنيا والآخرة.. فمن المتسامح في هذه الحال: الذين يؤمنون بالمسيح نبيا رسولا؟. أم الذين لا يعترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟.. على ان موقف المسلمين المتسامح مستند الى حقائق ذات صلة بإيمانهم بالله ورسوله وبالاسلام.. أولا: ان ايمان المسلم لا يصح إلا بالايمان بالكتب السابقة وبالرسل السابقين جميعا: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله». ثانيا: ان المسلمين يحملون (مسؤولية اخلاقية) تجاه الانبياء والمرسلين وذلك بالدفاع عن مقاماتهم وكراماتهم ومكاناتهم الجليلة.. ثالثا: ان هذه المسؤولية الاخلاقية والتاريخية والعقدية مستمدة من القرآن الذي هو (كتاب الدفاع عن الحق كله) فقد دافع عن المسيح ووصفه بالوجيه في الدنيا والآخرة، ودافع عن أمه البتول مريم، ووصفها بالطهر والاصطفاء، ودافع عن موسى ووصفه بالوجيه ايضا: «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها».