جائزة الفلاح الفصيح في لندن

TT

لحظة تاريخية في قلب الانسانية، بكل ابعادها الثقافية والادبية، ملأتني فخرا لانتمائي وصاحبها للهويات المتعددة نفسها اختصرت معانيها بتعبير Unique moment اي لحظة تنفرد بخصوصيتها.

كانت فصلا في ابداعات «المصري الفصيح» (انا صاحب حق تأليف اللقب منذ ان قدمت مسرحيته «البوفيه» قبل 33 عاما من ترجمتي، اخراجي على سبعة من مسارح لندن وفي مهرجان ادنبره العالمي) الكاتب علي سالم، الذي رفع اسم مصر ـ مرة اخرى ـ منذ عشرة ايام.

على سالم، المصري الفصيح (تطوير معاصر للفلاح الفصيح الذي درس اطفال مصر خطبته البليغة امام فرعون بادب جم ليعبر عن حق الفرد في الاختيار وأهميته كانسان لا يضحى به مقابل ما تسميه الدولة، ومؤسساتها البيروقراطية «بالمشروع الوطني»)

اعتلى الاربعاء 19 نوفمبر، خشبة مسرح مجازي هو وينفيلد هاوس، البيت الرسمي للسفير الامريكي في لندن، وهو تحفة معمارية وضعها الامريكيون تحت تصرف السلاح الجوي الملكي اثناء الحرب العالمية الثانية كادارة لسرب المناطيد المعلقة (شبكة مناطيد لحماية لندن من غارات اللوفتوافا النازية).

اختيار مؤسسة تراين The Train Foundation لوينفيلد هاوس كمنصة لمنح علي سالم جائزة الشجاعة المدنية للفرد الداعي للسلام والحرية وتعريض نفسه للخطر بوقوفه ضد تيار اللاعقلانية الداعي للحرب، فيه اشارة رمزية.

مضمون الامسية ـ لا مظهرها ـ دراما اغريقية، ليس لمكانة ابطال العرض (السفير الامريكي روبرت تاتيل، والكاتب، الناقد، الصحفي الفيلسوف جون تراين مؤسس الجائزة، وزميله الصحفي أريادني كالفو- بلاتيرو، واللورد دوغلاس هيرد، وزير الخارجية السابق) لتقنية الدراما الاغريقية التي نضجت في مسرح يوريبيديس (484 ق.م – 407 ق.م.) فالحدث الاهم كمركز الحبكة الدرامية ـ الدموي او المثير لفزع (او جدل) المتفرجين، لا يقدم للجمهور، بل يحكيه الرسول باسلوبه الشاعري ـ الذي تضخمه الجوقة معبرة عن ضمير المتفرج ليعكس خياله ثقافته وتجاربه الاجتماعية تصور وقوعها.

حمل الرسالة في دراما مسرح وينفيلد هاوس، اللورد هيرد، والفيلسوف تراين، والسفير تاتلر الذي افتتح الامسية بكلمات لجورج واشنطن (1732- 1799) عن حق الفرد في الحرية وشجاعته عند مقاومته للاغلبية اذا كانوا على خطا. وترجمتها للعربية المعاصرة هي طائر يغني خارج السرب عندما يفقد الاخير بوصلته فيتجه الى «سكة اللي يروح مابرجعش» حسب الفلكلور المصري.

طبعا سيهاجمنا من لا يتسع افقه لقبول فكرة ضرورة التسامح لاكتساب المعرفة، ويقولون ان الجائزة «رشوة» علي سالم لدعوته التطبيع مع اسرائيل. وهذا هراء.

فكتابات علي سالم، ابن الـ 72 عاما، منذ نصف قرن، كلها بحث عن الحقيقة ومعايشة الواقع قبل تقديمه للقراء، مثلما ظهر في مسرحية «البوفية» التي كتبها ربع قرن قبل رحلته لاسرائيل. قارنها النقاد الانجليز، بمسرح فرانز كافكا (1833- 1924) في حيرة الفرد امام المؤسسة، وبحثه عن الحقيقة امام عرقلة قوى تاصلت في المجتمع بعقود لا يعرف منفذوها من وقعها واصبحت عقيدة يؤمن المجتمع بها. فهناك ضرورة للبحث في اصل الحكاية للتاكد من انها حقيقة ام خرافة.

كرر النقاد الانجليز التفسير عندما عرضت له من ترجمتي واخراجي مسرحية «بير القمح» عام 1977 عندما خلط التراث الفرعوني وقصة يوسف عليه السلام في الاستعداد للسنوات العجاف بروح ابن البلد المصرية الحديثة؛ وايضا في الكاتب والشحات، عندما يبيع رئيس اكبر تحرير صحيفة تشكل الراي العام نفسه للفساد ضد مصلحة قرائه (لندن الاولدفيك 1980) اعماله لنصف قرن كانت ارهاصات لربما اهم بحث ميداني في الادب المصري المعاصر.

اراد الكاتب ان يقدم لقرائه وقائع حقيقية بقيادة سيارته القديمة من مصر عبر سيناء الى حيفا، وتجنب الزعماء والساسة، وقابل الناس العاديين من جرسون الى مزين الى ترزي الى تاجر الى سائق باص الى مدرس. بما فيهم الطيب الشرير، والغني والفقير وعاد ليحكي التجربة بحيادية ـ ويترك الحكم للقارئ ـ في كتاب باع أكثر من 60 الف نسخة باللغة العربية.

الرقم يفوق مبيعات كتب «اتخن تخين» في اتحاد الكتاب المصريين الذي فصل علي سالم من عضويته» لترويجه للتطبيع مع بلد تربطه بمصر فعليا علاقات طبيعية ديبلوماسيبة وحركة تجارة رائجة ذات اتجاهين واستثمارات متبادلة، وتزاوج بين ابناء وبنات الشعبين!

كنت فخورا مساء الاربعاء 19 نوفمبر. علي سالم صديق عزيز «ابن كار» اي ننتمي سويا لمهنة سلاحها الوحيد القلم في مواجهات شرور اسلحة الدمار الشامل للعقل والروح.

وهو بحري متوسطي مثلي (من دمياط التي اشتهر اهلها بالبخل وايضا بالحكمة وصناعة الموبيليا، التي تحتاج للتصميم والفن وحب الجمال والتعبير عنه، وهي كلها صفات اجتمعت في علي سالم).

التطبيع او المقاطعة بين بلدين امر يخص ساستهما، ولا يخصاني ككاتب مسؤول امام القراء ولست مسؤلا امام البرلمان او مجلس الوزراء. ويوم ان يتخذ الصحفي او الكاتب موقفا سياسيا «مع» او «ضد» فمن صالح المهنة ان يدفن القلم في مقابر الامام الشافعي ويتفرغ لخوض الانتخابات.

منح علي سالم جائزة الشجاعة لموقفه الفردي ككاتب مع الانسانية وليس ضدها.

ولا غرابة في انه كسب القضية التي رفعها ضد اتحاد الكتاب المصريين الذي روج لمقاطعته في البلدان العربية ـ والخاسر آلاف من القراء العرب وطلبة الدراما ودارسي الادب. فالقضاء المصري لايزال من المؤسسات القليلة التي صمدت للبلطجة التي «بوظت» مؤسسات المجتمع بعد كارثة 1952.

حكم القضاة وفق لائحة اتحاد الكتاب نفسه التي تضع السياسة خارج اطار اختصاصاته النقابية كالحفاظ على مصالح اعضائه ضد السرقات الادبية ونهب حقوق الاعضاء بطبع كتبهم دون اذنهم في بيروت، وحمايتهم من تهديدات الارهابيين الخ.. اي وظيفته كاتحاد نقابي، وليس كحزب سياسي.

وكتأكيد لشجاعة الفردية استقال سالم من اتحاد الكتاب المصريين فور كسب القضية التي كشفت مرافعتها انه اتحاد لا يساوي «بصلة» يهدر اشتراكات الاعضاء في لافتات واعلانات تهنئة ومظاهرات بدلا من دعم من يرفع اسم مصر ويطور الاعمال الادبية.

اما افضل فصول مسرحية 19 نوفمبر فكانت كلمة المصري الفصيح الذي داعبت اقدامه كطفل طين التقاء فرع النيل الشرقي بمياه المتوسط وومضت في عباراته توهجات تراث ادب السخرية الشعبي الحديث من عبد الله النديم، الى عمنا الكبير محمود السعدني مرورا ببيرم التونسي، وجاءت تعبيرا عن عبقرية النكتة لذاكرة قومية جماعية عمرها 7000 سنة.

لم يقترب المصري الفصيح في كلمته من السياسة وانما ركز على الابعاد الانسانية وضرورة الا يخدع الكاتب قراءه بحشو صفحات الكتاب بما خطر بباله «المبسوط» وفق دخان «الصنف الجديد» بل يكتب لهم من ارض الواقع بامانة ويترك لهم حرية الاختيار.

مبروك الجائزة لكل اديب وكاتب وانسان يحب الحرية وبرافوا للفلاح المصري الفصيح.