عراق ما بعد الاتفاق.. أخطر القرارات

TT

صوّت البرلمان لمصلحة الاتفاقية الأمنية، وتوقفت نشاطات رزم حقائب بعض المسؤولين ممن لا يملكون قوة البقاء من دون قوات التحالف، وأصبح الجدل حول الاتفاقية الامنية شيئاً من الماضي تحركه معطيات المستقبل. ولم يكن أمام العراقيين غير خيارين، إما الاتفاق، وإما قبول فوضى عارمة في حال انسحاب أميركي شامل، تؤجج نارها رياح الحقد الشرقية، تكون الغلبة فيها للأقوى.

وتم إقرار وثيقة للإصلاح السياسي، لم تقدم شيئاً محدداً وملزماً لأي طرف، بل قدمت غطاءً نفسياً ومعنوياً لمن كانوا يخشون ردود فعل تهدد مستقبلهم الانتخابي، خصوصا من قبل نواب العرب السنة، الذين حصلوا على أوطأ سقف من المطالب غير الملزمة.

وماذا بعد.

ظاهرياً، فشلت إيران في منع تمرير الاتفاقية، مع أن وجودها ترك أثرا خلال مرحلة النقاشات، وظهور مواقف متفاوتة تدل على سياسة ازدواجية المواقف المعروفة عن ساسة إيران. وفي كل الأحوال سيعاد بناء السياسة الإيرانية، على قواعد حث أميركا لفتح حوار مباشر مع طهران حول مجمل الملفات التي يتصدرها الملف النووي، والوضع العراقي. وتأسيسا على ذلك، لن يكون متوقعاً مساهمة إيران في العمل على تحسين الوضع الأمني، لأن التراكم في التحسن يضعف الصفحات اللاحقة التي سيقلبُها المفاوضون الايرانيون، وأنها لا تريد أن ينعم الأميركيون بهدوء خلال فترة الحوار، بل تريد الحوار تحت ضغط العنف، وهو جزء حاسم في فلسفة اللعب بالأوراق على الطريقة الإيرانية.

ولما كانت (إيران) على غير استعداد للتخلي عن توجهاتها النووية، فسيكون الحوار المباشر (طويل الأمد) ممهداً وسبيلاً لبلوغ الغاية، لأنها ليست في حاجة للخبرة والمواد المصنعة، ولا للمال، لبلوغ الهدف، بل بحاجة لكسب الوقت فقط. وقد لا تقبل بالعراق ثمناً للحلم النووي، الذي أشار اليه أحد ضباط المخابرات الأميركية المخضرمين السابقين، ممن عرف برؤيته الدقيقة المبكرة بالتهديدات الإيرانية، حتى يوم كانت متابعاته منصبة على الوضع العراقي خلال حقبة النظام السابق في العراق. وأي القرارين يتخذ سيكون أخطر، قرارات (غير متوقعة)، يتخذها أوباما وأميركا. فلا شيء أخطر من أن تصبح إيران نووية أو أن تستولي على العراق. فكلاهما كارثي، ولا ضمان لطي صفحات برامجها النووية نهائياً، وما يمكن أن تتفق عليه اليوم لا تتردد بنقضه حال سنوح الفرصة، أما ابتلاع العراق فسيتيح لها مجالاً استراتيجياً لا حصر له.

من ايجابيات الاتفاقية الأمنية انها ضربت اللعب الإيراني في ملعب مفتوح الى أجل غير محدد، ووفرت فرصاً لابتعاد عراقي مفترض عن النفوذ الإيراني، وقلصت قوة احتمالات قرارات خطيرة من الممكن أن تتخذها الإدارة الأميركية الجديدة، تحت ضغط الجزع والأزمات.

وعلى مستوى الداخل، لن تقدر الاتفاقات بين الكتل ووثيقة الإصلاح السياسي، حتى بعد إقرارها تحت قبة البرلمان، على النهوض بالواقع المرير، الذي سببته المشاكل وفقدان الثقة وسوء النيات بين الكتل، وربما المكونات. فقد كتب الدستور وتذرع به كثيرون في إثارة المشاكل والنزاعات والتمسك بالخطأ، مثلما تمسك به الباحثون عن الحلول. وعندما يكون الدستور موضع إبهام، فكيف يكون حال اتفاقات أقل شأناً؟

واحدة من المشاكل الأساسية المستعصية ترتبط بالمعضلات القائمة بين المطالب الكردية والمواقف المقابلة، في محافظات التماس، نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، لم تتزحزح قيد أنملة، بل تراكمت عليها تعقيدات فرضتها ظروف ما بعد 2003. ويمكن الى حد كبير وصف هذه المعضلات بقنابل موقوتة، ليس لأنها كبيرة وخطيرة ومتجذرة داخليا فحسب، بل لأنها ترتبط بالموقف الإقليمي ومصالح الدول المجاورة، تركيا، سوريا، وإيران. وانفلات الوضع العراقي وحصول صراع مسلح في تلك المحافظات يؤدي الى دور إقليمي مباشر عنيف، في حال عدم وجود أميركي عسكري مباشر، وهو ما أبعدته المصادقة على الاتفاقية.

أما العلاقات العربية العربية داخل العراق، فيمكن معالجتها إذا ما صفت النيات، إلا أن المؤشرات لا تشجع على ترجيح ذلك الصفاء، فالتغلب على عدم الثقة لا يزال بحاجة لوقت طويل، لا يمكن تحققه من دون حصول متغيرات إيجابية كبيرة في الانتخابات المقبلة، وهو أمر مشكوك فيه بسبب التخندقات الطائفية والحزبية والتخريب الخارجي المستمر. فيما يتطلب التعايش الوطني السلمي الأخذ باستحقاقات هواجس الطرف، الذي ينظر اليه بمنظار الهزيمة، إلا أن التجارب أثبتت صعوبة التغلب على التخندقات في مناطق لم تأخذ من سماحة الفكر والمعتقدات غير المسميات المجردة من الفعل.

يبقى انسحاب القوات الأميركية مسألة مهمة، لأنه يرتبط بمدى قدرة استعداد القوات العراقية، وحاجة أميركا لتعزيز وجودها العسكري في أفغانستان بما لا يقل عن عشرين ألف مسلح خلال عام 2009، على حساب وجودها في العراق، لعدم توافر قوات أميركية للحركة من مناطق أخرى الى جبهة حرب أفغانستان. وهما عنصران متناقضان، لأن من غير المتوقع أن يكون البناء الهش للقوات العراقية، خصوصاً في مجال التسليح الثقيل، قادرا على الإيفاء بالالتزامات الأمنية الشاملة.

في جميع الأحوال لم يعد معقولاً الركون الأميركي الى الأمر الواقع في العراق، والقبول باستراتيجية بقاء ممل غير مقيد، تحت ضغط الأزمة المالية الصعبة. وسيكون مرجحاً الضغط باتجاه سحب كبير، غير شامل، للقوات من العراق، وفق سياق يخفف كثيراً تدخل القوات الأميركية في العمليات القتالية، إلا إذا ارتبطت بنهج أميركي مصمم للتصدي لتنظيم القاعدة.

لقد نجحت القوات العراقية في تسلم ملفات الأمن في نحو عشر محافظات، فيما بقي الأمن من مسؤولية التحالف في بغداد ونينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، لعدم تكامل القدرة العراقية، فضلا عن التداخل الشائك بين الكرد والعرب والتركمان في محافظات شمال بغداد، وصعوبة السيطرة على بغداد حالياً من دون دعم أميركي. وسيتيح الاتفاق الأمني مجالاً لتعزيز القوة العسكرية العراقية.

وهكذا يبقى العراق، الى أفق مفتوح، مثقلاً بهموم وتناقضات ومعضلات، وبات الإقليم مثقلاً بالعراق الجديد الصعب.

ويبقى السؤال قائماً ومطروحاً: هل ستعمل إيران على زعزعة الاستقرار في العراق بثقل أكبر؟ الجواب: نعم. وعسى أن يكون ذلك سبباً لابتعاد العراقيين عنها.

[email protected]