والدي.. والإعلام والرقابة

TT

أهداني صديق عزيز مقابلة تلفزيونية مع والدي ـ رحمه الله ـ سجلها معه بتلفزيون الكويت عام 1961 الإعلامي الكويتي المخضرم رضا الفيلي. الهدية كانت من أثمن وأغلى ما تسلمته في حياتي. فالصورة والصوت واضحان، وشعرت بمشاعر إنسانية جياشة تجاه رجل ترك في شخصيتي كثيرا من بصماته، ورسخ في كياني كثيرا من خلايا وجينات مبادئه وقيمه. وعلى الرغم من رحيله ـ رحمه الله ـ قبل أكثر من عشر سنين، إلا أني شعرت بأنه كان قريبا مني جدا وأنا أشاهد المقابلة ـ المرة تلو الأخرى.

كان والدي شاعرا نبطيا ورجلا بدويا، متدينا دون تطرف. تعلم القراءة والكتابة بالفطرة، أو للدقة: كان يفك الخط دون أن يتعلم في المدارس. في نهاية الاربعينات رقُوه من عامل إلى «تنديل» أي مسؤول عمال ـ بشركة نفط الكويت التي عمل بها لأنه يقرأ ويكتب.

بعيدا عن مشاعري الخاصة حين شاهدت المقابلة، فقد كانت المقابلة التي استغرقت نصف ساعة تقريبا عن قبيلة العجمان وعن شيخها في القرن التاسع عشر ـ راكان بن حثلين، ولكن أكثر ما شد انتباهي مسألتين: اللغة والمفردات التي تحدث بها، ودرجة الحرية والتلقائية التي مارسها والدي أثناء المقابلة. كلمات كان يقولها لم يعد لها وجود بيننا، خمسون سنة من الزمان أزاحت مفردات شائعة، وأفسحت المجال لكلمات جيدة أخرى، ولم يبق من القديم سوى علاماتها على شكل بقايا تغيرت معانيها، أو أنها تلاشت من مفردات ولغة اليوم.

تعمدت أن يشاهد أحفاده ـ أبنائي ـ المقابلة، كانت مشاعرهم وجدانية وهم يشاهدون جدهم، بعضهم لم يعرفه إلا من القصص التي نرويها نحن عنه، وكنت أتساءل بين فترة وأخرى: «ماذا قال؟»، فتتقلب الشفاه متعجبة: «لا أدري!». لا أبالغ إن قلت إن الصغار من مواليد هذه الألفية كانوا يستمعون للكلام وكأنه من لغة أخرى غير العربية.

الخمسون سنة الماضية قلبت مفرداتنا رأسا على عقب، أكيد أن مقابلات ذلك الزمان تعج بالمفردات التي رددها أبي في المقابلة، ولكن السرعة التي تم بها هذا التغير تعكس تغيرات سريعة في نمط الحياة الذي نستقي منه مفرداتنا.

الملاحظة الثانية التي سجلتها في المقابلة هي درجة الجرأة والتلقائية في الحديث، لعل أنصع صورها هي مشهد من شارك في المقابلة المرحوم سعود بن شغبان العجمي والذي ألقى «بغترته وعقاله» فخرا حين قرأ أبي شعرا لراكان بن حثلين، الحركة كانت قمة في التلقائية والعفوية، وترجمة لحرية بسيطة مارسها الإنسان في ذلك الزمان أمام المشاهدين دون قطع أو مونتاج.

ففي ذلك الزمان، لم تكن التكنولوجيا والبث والفضائيات كما هي عليه اليوم، ولعل تلفزيون الكويت من القلائل في المنطقة في حينها، ولم يولد مقص الرقيب بعد، ولم يكن الناس بحساسية اليوم، ولم يكن أحد يراقب الكلمات، ويصطاد الهفوات مثلما اليوم.

تزامنت مشاهدتي للمقابلة مع افتتاح معرض الكتاب بالكويت، رقابة غير مسبوقة، وكتب ممنوعة، وشباب يعتصم أمام مدخل المعرض احتجاجا على عدم حرية القراءة. كتاب ممنوع في معرض الكتاب بالكويت بحجة أنه يسيء للمملكة العربية السعودية اشتريته بنفسي من معرض الرياض للكتاب!

في زمن التكنولوجيا والاتصالات، تراجعت الحريات، وفي زمن ما سمي جورا بـ«الصحوة الدينية» ضاقت صدور الناس بالنقد وبالكلمة التلقائية، وأصابتهم حساسية مفرطة من التلقائية والعفوية.

هل كان زمان مقابلة والدي أفضل من زماننا هذا؟ ليس هذا مغزى هذه المقالة، بل على العكس من ذلك، إنها دعوة للتلقائية وللعفوية ولتنقية النفوس وتطهير الصدور والتسامي فوق الحساسيات المفرطة، ودعوة للمحبة واستعادة الأزمنة الجميلة تطلعا نحو أزمنة المستقبل القادمة التي لا بد أن تكون أفضل مما مضى من الزمان .. لا بد، وحتما ستكون!