فن المناكفة السياسية

TT

أتساءل أحيانا ماذا لو انسحبت اسرائيل فجأة من الاراضي المحتلة واصبح لزاما على فتح او حماس ان تقررا أيا منهما سيدير تلك الاراضي.

في الغالب سيختار الفصيلان بقاء الاحتلال الاسرائيلي بدلا عن السماح للفصيل المنافس بالانتصار في معركة الحكم. واذا كان الامر بالنسبة للحالة الفلسطينية مجرد افتراض، فانه في الحالة العراقية صار واقعا، بل واقعا لا يخجل البعض من الدفاع عنه. لقد كشف الجدل الدائر داخل الطبقة السياسية العراقية حول الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة نموذجا استثنائيا في المناكفة والتضليل والقدرة على رهن مصير «الوطن» بمصالح ضيقة الأفق، بل وبسلوك استرزاقي يبحث عن «العمولة» في كل شيء حتى لقاء دفن جثث الموتى. «السوق السياسي» العراقي أظهر قدرة كبيرة على تجاوز السقوف المفترضة للانتهازية السياسية وعلى انتهاك ما تبقى من معنى للمصلحة الوطنية فاصبح عاريا من اوراق التوت التي ستنزع ما تبقى منها قادمات الأيام مع كل خطوة مقبلة يبتعد فيها «الراعي الدولي» وينكشف اللاعبون المحليون أمام بعضهم، وأمام الاخرين.

لقد رأينا نقاشا حول الاتفاقية الأمنية مغرقا في عبثيته بل يكاد يخلو تماما من أي جدية في التعامل مع بنود الاتفاقية، وفي الحساب العقلاني لما تتضمنه من مكاسب او خسائر، بل وللأثر الاستراتيجي الذي تفرضه في علاقتها مع «الأمن القومي» ان كان قد بقي معنى لهذه العبارة. تحول النقاش الى محاكمة للنوايا وتم تهميش ما هو جوهري ورئيسي و«مصيري» لصالح ما هو ثانوي وعابر، بل واحيانا «سخيف»، وصل الامر حد أن يقايض البعض صوته مقابل الإفراج عن «متهم» من أقاربه، او استحصال منصب يطمح إليه حزبه. وفي الوقت الذي قرر البعض ان يعارض مستندا إلى نفس المستهلكات الايديولوجية القديمة التي ألفها العراقيون منذ «سحلهم» لنوري السعيد، وعلى افتراض «سوء النية» في الطرف الآخر حتى لو كان هذا الطرف هو الراعي الوحيد «الموثوق» لضمان نقاش سياسي يمكن فيه للمعارضين ان يعارضوا، فان البعض الاخر قرر ان يعارض ويتحفظ، لا لأنه غير مقتنع، بل لأن «النعم» السريعة ليست لغة المزاد الذي سيظل مفتوحا مادام كل صوت قابلا للتحويل الى ثمن. هؤلاء عارضوا لا لأنهم يتوجسون من «سوء النية» الامريكية، بل لأنهم يتوجسون من نوايا الاخرين عندما لا يكون لـ«النية «الامريكية اثر حاسم في تقرير السياسات الداخلية. هم يريدون الضمانات إذا بقي الامريكيون، والضمانات اذا خرجوا، والضمانات اذا وافقت الحكومة، والضمانات اذا عارضت الحكومة، ففي الديمقراطية العراقية تحل لغة «الضمانات» محل لغة الانتخابات، والعاجزون عن ان يضمنوا مكانا لهم في السلطة عبر صندوق الاقتراع يبحثون عن الطرف الخارجي الذي يمكن ان يضمن لهم هذا المكان في مواجهة «النوايا المبيتة» للطرف الداخلي.

من المؤسف ان البعض ممن أعلن معارضته للاتفاقية هو في الحقيقة خائف من ان يقرر الامريكيون الزام انفسهم بالخروج، والبعض من هذا البعض، لا يريد ببساطة ان يكون نوري المالكي هو الموقع على الاتفاقية التي وضعت اساسا لانهاء الوجود العسكري الاجنبي والتي حقق فيها المفاوض العراقي مكاسب ما كان احد يتصورها، الى حد ان خبيرا استراتيجيا امريكيا وصفها في تعليق للنيويورك تايمز بانها تنازلات مفرطة لم تقدم الولايات المتحدة على مثلها سابقا. من المؤسف ان هناك في داخل الطبقة السياسية من رأى في التنازلات التي انتزعها «العراق» خسارة له، ربما لأن «العراق» لم يعد كلمة ذات دلالة في قاموسه السياسي.

بالطبع في سوق المناكفة السياسية العراقية لا بد ان تغطى كل المطالب بـ«شعارات» براقة عن «مصلحة الشعب والوطن» وعن حق الجماهير بان يستفتوا عن رأيهم، رغم إدراكهم بان هذا لا قيمة عملية له على الاتفاقية، كونها ستدخل حيز النفاذ، فيما من الصعب إجراء الاستفتاء في توقيتاته، وحتى اذ افترضنا واجري وانتج رفض للاتفاقية، فانه حين ذاك يشعر الطرف العراقي الطرف الامريكي بخروجه من الاتفاقية وهذا سيحتاج الى سنة اخرى، اي المدة ستتقارب مع توقيتات الانسحاب الموضوعة اصلاً في الاتفاقية، وهناك من تحدث عن «عدم اطلاعه على تفاصيل المفاوضات» وكأن على المفاوضين العراقيين ان يقدموا تقريرا لكل عضو برلمان، بل وان يسافروا الى العواصم التي يقطنها بعض البرلمانيين لأخذ رأيهم بالاتفاقية، او ان على الحكومة بعد الان ان تعتمد نظام المحاصصة عند التفاوض مع طرف خارجي فتضع مفاوضا من كل حزب، بل وتطلب من الطرف الآخر أن يفاوض كل حزب على حدة رعاية للشفافية التي لم يشفع لها اصطناع مؤسسات غير دستورية لإرضاء غرور بعض السياسيين من الذين لا يرون في قبة البرلمان سقفا كافيا لتطلعاتهم السياسية. ولا يفوتنا هنا الاشارة لنفر اخر من الذين وصلوا حدا من «اللامسؤولية» بحيث استسهلوا مغادرة البلد في اكثر المراحل احتداما ومصيرية والذهاب الى الحج في أسوأ اشكال الهروب: ذلك الذي لا يكتفي بأن يكذب على ناخبيه فقط بل يريد ان يكذب على الله.

السؤال الذي لا بد من طرحه هنا هو، اذا كان الامريكيون قد وصلوا الى الاستنتاج بأن مرحلة الانغماس في الشأن العراقي وتفاصيله لا بد ان تنتهي، وانهم قدموا تنازلات كبيرة لمجرد الحصول على اتفاقية تختم تراجيديا هذا الانغماس، فأي ضمانات داخلية ستمنعهم من الخروج عندما يريدون، واذا كانت هذه الضمانات مطلوبة بسبب افتراض سوء النية بين الفرقاء الداخليين، فهل ستغير ورقة يصادق عليها البرلمان من «نوايا» الاخر. ان منطق البحث عن ثمن ربما يكون مقبولا اذا كان سقفه المصلحة الوطنية وثوابت تفرضها ضرورات الاستقرار والوحدة في بلد صار جليا ان من يهددونه من الداخل لا يقلون شراسة، ولا ابالية، عن الذين يهددونه من الخارج ..