أن تلعن الأشرار لا يجعلك بالضرورة من الأخيار..

TT

أميركا في طريقها إلى السقوط.. أميركا بدأت رحلة النهاية.. الإمبراطورية الأميركية تتهاوى.. أميركا على حافة الهاوية.. وجاء دور أميركا.. السوفيت هم السابقون، والأمريكان هم اللاحقون إن شاء الله.. الرأسمالية في النزع الأخير. مانشيتات وتعليقات صحفية نقرأها ونسمعها من كثير من المعلقين العرب، كلما حلت أزمة في أميركا، أو فتحت أميركا على نفسها جبهة عسكرية جديدة، وخاصة خلال إدارة الرئيس جورج بوش الصغير، التي ورطت أميركا في حربين استنزافيتين كبيرتين، وأزمة مالية لا تُقارن بها إلا أزمة 1929 ـ 1933. لا شك أن إدارة بوش التي أدارها المسيحيون الجدد، وفق وهم ديني مفاده أن أميركا صاحبة «رسالة» إلهية عليها إنجازها بعون من الرب، قد أدت بأميركا إلى كوارث هي دائماً مصير كل من يسير على ذلك النهج، ولكن أميركا في النهاية ليست جورج بوش الصغير، ولا المسيحيين الجدد، ولا الحكومة التي تديرها دورياً كل أربع سنوات من البيت الأبيض، بل هي شعب مُنتج، وقيم إنسانية وإن شوهت أحياناً، ومؤسسات فاعلة، وجامعات تحتل المستوى الأول في العالم، وأكبر عدد من الحاصلين على جائزة نوبل، وتقنية متقدمة، وإبداع جعل الولايات المتحدة رائدة المخترعات في القرن العشرين، وبيئة تشجع البحث العلمي في كافة المجالات، وإعلام مطلق اليدين، ومجتمع لا يُعاني من عقدة التغيير، لدرجة أن يُصبح فيه الأسود رئيساً في البيت الأبيض، بعد أن كان عبداً ذليلاً في الكوخ الأسود. نعم، بوش الصغير دفع أميركا، أو بالأصح إدارته اليمينية، وما كان بوش إلا لعبة بيد هذا اليمين، إلى حافة الهاوية، عندما جعل هاجس الأمن العسكري المبالغ فيه بعد حكاية الحادي عشر من سبتمبر، وبناء عالم، أو لنقل إمبراطورية عالمية على النهج الأميركي، أولوية الأولويات. ومعلوم أنه عندما تلجأ دولة كبرى، أو قوة عظمى، إلى الحل العسكرى على حساب الحلول الأخرى، أو أن يكون الإنفاق العسكري على حساب نمو الاقتصاد القومي، فإن النتائج في النهاية تكون على حساب «عظمة» الدولة ومحصلة القوة. «إن الثروة والقوة»، يقول مؤرخ أميركي معروف، أو القوتين الاقتصادية والعسكرية تُعد أموراً نسبية في ما يتعلق بالنظام الدولي، ونظراً لنسبيتهما وخضوع كل الأمم للاتجاه نحو التغيير، فإن التوازنات الدولية لا يُمكن أن تثبت على حال وأنه لمن الحمق أن يدعي الساسة الخلود..» (بول كينيدي. القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري، من 1500ـ2000. القاهرة: دار سعاد الصباح، 1993 ص 723)، ولعل هذا ما فكر به بوش، وما خططت له إدارته اليمينية، ولكن لا خلود في النهاية إلا للخلود نفسه، بمثل ما أنه لا خوف إلا من الخوف نفسه، كما قال فرانكلين روزفلت.

في مقال لفريد زكريا في «النيوزويك» قبل عدة أسابيع، حذر فيه أميركا من أنها لن تكون القوة العظمى في المقبل من أيام، وهذا ليس عيباً أو انهياراً أو حتى تراجعاً، ولن تكون دولة هامشية على أية حال. فأميركا، التي أبدعت العولمة، وحققت «الأمركة» على مستوى العالم، من سلسلة مطاعم مكدونالد إلى طائرات البوينغ، مروراً بالانترنت وأودية السيليكون وناطحات السحاب، يجب ألا تكون غاضبة، أو أن تشعر بالنقص، لأن ناطحات السحاب أصبحت في دبي وماليزيا أعلى منها في نيويورك، ولا لأن الهند التي كانت جائعة، أصبحت تصدر أفضل علماء الكمبيوتر وصناعة الشرائح الإلكترونية، وبوليوود تنافس هوليوود، ولا لأن الصين «الأفيونية» سابقاً، الماوية لاحقاً، تحولت إلى مارد اقتصادي منافس لأميركا واليابان وألمانيا، لأنها عرفت كيف توازن بين الإنفاق العسكري والإنفاق الاستثماري، لأن كل ذلك هو نتاج العولمة التي أبدعتها أميركا، فعلى أميركا أن تُسر لأنها في النهاية «أمركة» العالم بشكل أو بآخر، حتى لو كان ذلك على حساب أميركا بصفتها القوة الأعظم في عالم اليوم، من حيث أنها تحولت إلى منافس ضمن منافسين، وليست بطلاً متوجاً متفرجاً على قراع المنافسين في حلبة أقسى من حلبة المصارعين والملاكمين. نعم أميركا لن تكون القوة الأعظم والمتفردة اقتصادياً وعسكرياً نوعاً ما، ولكنها ستبقى قوة عظمى ضمن دول عظمى، كما هو الحال مع بريطانيا أو فرنسا. لن تنهار إمبراطورية العولمة الأميركية بمثل انهيار الإمبراطورية الرومانية أو الإسلامية أو العثمانية أو الروسية، بحيث تتفتت الإمبراطورية إلى دول هامشية، ولكن أميركا ستبقى دولة مهمة في عالم اليوم إلى أن يشاء الله، ومشيئة الله لا يعلم مداها إلا الله جلت قدرته، وهو الذي يكافئ على قدر الجهد، لا على قدر التمني.

مشكلة أميركا اليوم هي مشكلة كل قوة عظمى في التاريخ، أي الموازنة بين القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، أو القوة السلسة والقوة الصلبة، حيث أن أي نمو في إحداهما، قد يكون اضمحلالاً في الأخرى، والموازنة بينهما مسألة في غاية الحساسية، إذ تتغير المعادلة مع تغير الظروف، وهذه مسألة تحتاج إلى رقابة واعية ودائمة. ورغم أن الدرس التاريخي في هذا المجال واضح وجلي، من خلال استعراض نهوض وسقوط الدول والأمم، إلا أنه يبدو أن الإنسان لا يتعلم من تجاربه، والكل يظن أن ما حدث لغيره لا يمكن أن يصل إليه، ورغم أنه «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك»، التي يعلقها الحكام في قصورهم، من باب الوجاهة لا من باب العظة والحكمة، إلا أنهم يتصرفون خلاف ذلك كله، وكأن التاريخ توقف عند بابهم، أو كأن فرانسيس فوكوياما كان يتكلم عنهم وهو يكتب «نهاية التاريخ وخاتم البشر». وفي ذلك يقول كينيدي: «فلكي تتحول دولة إلى قوة كبرى أي قادرة على الصمود في مواجهة أية دولة أخرى، فإنها تحتاج إلى إنعاش قاعدتها الاقتصادية، ولكن بالدخول في حرب ونفقات عسكرية ضخمة تكون هناك مخاطرة بتآكل القاعدة الاقتصادية القومية، خاصة في مواجهة دول تخصص أجزاء أكبر من دخلها للاستثمار الإنتاجي لتحقيق نمو بعيد المدى» (المرجع السابق، ص 726).

ولكن رغم كل هذه المشاكل والأزمات التي تعاني منها أميركا، فإنها لن تتحول إلى دولة هامشية، في المدى المنظور على الأقل، لأن أميركا، الدولة والمجتمع، كيان قابل للتحول والتحور، ولديه محفزات الحركة، وبالتالي القدرة على امتصاص الأزمات، ونظرة سريعة إلى التاريخ الأميركي ستجلو هذه النظرة تماماً. قد لا يُعجب هذا الحديث البعض من العرب والمسلمين، ممن يتوقعون سقوطاً أميركياً مدوياً، يشابه السقوط السوفيتي، أو لعلهم يتمنون ذلك، ومن ثم يُلبسون الأماني ثوب التوقعات والتنبؤات، ولهؤلاء أقول: وماذا ستستفيدون من غياب أميركا عن الساحة العالمية؟ وأنا أتحدث هنا عن أميركا الحضارة والانتاج والتقنية، وليس هذه السياسة أو تلك. فلو غابت أميركا عن الساحة، فلن تكون أي دولة عربية أو إسلامية هي الوارث للتركة الأميركية، فكل هذه الدول لا تملك اليوم ما يمكن أن تُسهم به في صنع حضارة العصر، فكيف بوراثة هذه الحضارة؟ قد يكون للهند أو الصين أو اليابان حظ في تسلم شعلة الحضارة والسير بها إلى مواقع أرقى، ولكن لا حظ لعرب أو مسلمي اليوم، ففاقد الشيء لا يعطيه. تمني زوال نعمة الآخرين، لا يعني أن تكون أنت الوارث لهذه النعمة. وأن تلعن الأشرار وتتمنى زوالهم، وفق وجهة نظرك لمعنى الشر، لا يعني أنك في النهاية من الأخيار المتخيلين. قد يكون هذا نوعاً من جلد الذات، كما سيرى البعض، أو نوعاً من المدح لأميركا، كما سيرى بعض آخر، فليكن ذلك. فالأمة التي لا تستيقظ إلا بالجلد، تستحق الجلد، والأمة التي ترتقي بنفسها إلى القمة تستحق المدح، حتى لو كانت إسرائيل ذاتها، والحق أحق أن يُتبع.

في أحد الأفلام الأميركية الجميلة، وأظنه فتيات قاسيات،Mean Girls تقوم فتاة مراهقة (ليندسي لوهان) بتدبير المقالب لزميلاتها في المدرسة، وتنظم إلى شلة من الفتيات الأخريات، يحاولن من خلالها تدبير المقالب لكل من هو سمين أو قبيح أو فاشل، ولكنها في النهاية تكتشف، بعد سلسلة من الفضائح الشخصية تحل بها، حكمة تجعلها نبراس حياتها وهي: إن السخرية من السمين لن تجعلك أكثر نحافة، وإن الاستهزاء بالقبيح لن يجعلك أكثر جمالاً، وإن السخرية من الفاشل في أمر ما، لن تجعلك فائزاً، وتمني الفشل للناجح لن يجعلك بالضرورة ناجحاً..فدع الخلق للخالق، واعمل على تحسين نفسك بدل التعليق على الآخرين. وبنفس المعنى، وبالنسبة لعالمنا العربي والإسلامي، فإن تُشعل شمعة، خير من أن تلعن الظلام، كما قال الحكيم كونفيشيوس..وطابت لكم الحياة..