فكرة

TT

نحن شعوب تهتم بانجازات الحكام، ولكن لا تهتم بانجازات العلماء والمفكرين، احياء او امواتا. هذه الفكرة حاصرتني وكبرت وانتشرت وأدت في النهاية الى حالة من الحزن عندي. فقد ألحت وكأنها واقع معيش. تذكرت ان عالمة الذرة سميرة موسى تعرضت لحادث غامض في الولايات المتحدة وقضت نحبها ولم يعد يذكرها احد. ويحيى المشد، احد ابرز علماء الذرة العرب، الذي اغتيل في فندق باريسي بيد مجهول، ولم يذكر الحدث اعلاميا بما يتناسب مع فداحة الخسارة وخبث الفعل وأسبابه. مر الحادث كغيره ثم طواه النسيان، فالكل رخيص عند اهله.

ابقتني تلك الخواطر ساهرة حين اطلعت على مشروع اعلامي يستعد التلفزيون الهولندي لتنفيذه احتفالا بمرور 200 عام على ميلاد تشارلز داروين، صاحب نظرية النشوء والتطور. ورغم ان ثقافتي العلمية لا تؤهلني لاصداراحكام علمية، الا انني استهجن ما قاله داروين عن اصل الانسان، وأعتبره منطقا مغلوطا يستند إلى افتراضات مضللة. ولكن ليس هذا هو موضوعي، وانما موضوعي هو أن الغرب يقدر علماءه ويهتم بذكراهم وبإلقاء الضوء على انجازاتهم، ويعتبر ما تركوه جزءا من التراث العلمي، الذي يؤرخ له ويبني عليه.

في ذكراه قررت هولندا تقديم برنامج من 35 حلقة عن الرحلة البحرية التي قام بها داروين، والتي أدت الى بلورة نظريته. الرحلة التي استمرت خمس سنوات سوف تختصر الى سنة واحدة، بهدف طرح اسئلة عن التغيرات التي طرأت على البيئة في عالم الانسان والنبات والحيوان منذ كون داروين نظريته.

يذهب المشاهد في رحلة عبر البحار نحو المناطق المهددة من بتاجونيا في جنوب المحيط الهادي واستراليا الى جزيرة سانت هيلانة، مرورا بكل المحطات التي زارها داروين ما بين عامي1831 و1836. والمدهش حقا هو ان السفينة سوف تحمل فريقا من العلماء والمصورين والصحافيين والفنيين من جميع انحاء العالم، واستوديو تلفزيونيا كاملا ومجهزا لانتاج البرامج اولا بأول واذاعتها، لا بعد انتهاء الرحلة ولكن اثناء القيام بها اسبوعا بعد اسبوع. مشروع ضخم لبث المعلومات لمن يريدها تلفزيونيا واذاعيا وعلى الانترنت، لإلقاء الضوء على موضوعات شتى، بدءا بهجرة الطيور، والاحياء المائية، ومرورا بتجارة الرقيق وعلم الفلك وانثروبولوجيا حياة بعض القبائل لربط الماضي بالحاضر، ويستضيف متحدثين عن علوم البيئة، ربما للوصول الى نظرية تطور جديدة صالحة لعام 2009.

هولندا دولة أوروبية صغيرة، ومع ذلك اعتبرت انجازات داروين البريطاني جزءا من ارث شامل، وخصصت لاحيائه امكانيات ضخمة. ورغم توافر الامكانيات البشرية والكفاءات والارصدة في عالمنا لم يفكر احد في مشروعات توثق لتاريخ الانجازات العربية الاسلامية في العلوم والفنون والفلسفة والتاريخ. ألا توازي رحلة ابن خلدون في الاهمية رحلة تشارلز داروين؟ احياء تراث ابن خلدون ببرنامج يوثق لفكر انبثق عن ثقافة تجذرت في علوم القرآن والشريعة وشملت الرياضيات والفلسفة والادب والفلك، قد يعيد التنوير للثقافة الانسانية عامة، بعيدا عن المادية والاصولية ودوامة درء الاتهامات الباطلة.

كثيرون يعتبرونه مؤسس علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد، مفكرا فهم دوافع النفس البشرية ومهد لرقيها باستخدام العقل وقدم التاريخ على انه علم وقانون يربط الماضي بالحاضر. كيف كان العالم في حياة ابن خلدون؟ رحلة بالصوت والصورة، فكرة تنتظر من يتبناها إكراما لذكرى عالم ومفكر ترك بصمة على تاريخ البشر في الشرق والغرب.