جريمة الصمت عن غزّة

TT

من هم المتورّطون في ارتكاب جريمة العصر بتجويع مليون ونصف المليون من الشعب الفلسطيني في غزّة، وبحرمانهم من الدواء والخبز؟ ومن هم المشاركون الحقيقيون في التخطيط لهذه الجريمة الوحشية وتنفيذها بأعصاب باردة مثلما كان يفعل هتلر وبول بوت؟ لنتّفق أولاً أنّ مخطط الإبادة الجماعية للفلسطينيين الذي ينفّذ أمام مرأى العالم ومسمعه في غزّة هو عار على البشرية كلها دون استثناء في القرن الواحد والعشرين، فالجميع في عصر الفضائيات، أي ليس هناك من يستطيع أن يدّعي أنه لم يسمع أو يرَ أو يعلم، وكما نشر الإسرائيليون من قتلوا ومن اغتالوا سابقاً، وبعد سنوات من تنفيذهم لهذه الجرائم، فهم ينشرون الآن أبعاد مخطط الإبادة في غزّة، وأهدافه، والدول والأشخاص والمؤسسات التي تساهم بتنفيذه. ولكن وقبل أن نصل إلى ذلك اليوم الأسود، عندما يتحقق الحلم الصهيوني بإبادة عرب فلسطين عن بكرة أبيهم، دعوني أستشفّ لكم من خلال كلّ ما قرأت واستنتجت أبعاد هذا المخطط وأدواته المحلية والإقليمية والدولية.

حتى نفهم موقف الاحتلال الصهيوني من العرب برمّتهم، ومن الشعب الفلسطيني بشكل خاص، دعونا نعيد ما قاله والد رام إمانويل، الذي اختاره أوباما كبيراً لموظفي البيت الأبيض، حين سأله أحد الصحفيين الإسرائيليين ماذا سيفعل ابنك في البيت الأبيض؟ أجاب الأب العجوز بماضيه الإرهابي، حيث ترأس إحدى مجموعات القتل والتفجير الصهيونية التي ارتكبت مجازر دير ياسين وكفر قاسم وقبيّة وغيرها: «ما الذي تعتقدون أنه سيفعله، هو لن ينظف الأرض، فهو ليس عربياً». العرب بالنسبة للصهاينة هم الخدم الذين يكنسون الأرض لهم، وهم جميعاً يستحقون الموت والقتل والتهجير واحتلال أرضهم وديارهم وسلب ثرواتهم. إذاً هذا هو الموقف العنصري الذي ينطلق منه الصهاينة في التعامل مع العرب تحت الاحتلال وأينما يلتقون بهم. وما استخدامهم إطلاق الصواريخ من غزّة ذريعة لارتكاب هذه الجريمة النكراء بحرمان الشعب الفلسطيني من الغذاء والدواء سوى حجّة واهية تماثل امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.

وعبر المحيط، تمنع واشنطن نشر تقرير لموفدها الخاص لشؤون الأمن في الشرق الأوسط، الجنرال جيمس جونز، مع العلم أنّ صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أوردت في (آب) أنّ جونز يعدّ «تقريراً يتضمّن انتقادات شديدة للسياسات الإسرائيلية في الضفة وقطاع عزّة»، وأكّد أرون ميللر، اختصاصي السياسة العامة في معهد وودرو ويلسون، المعلومات الصحافية الإسرائيلية عن تقرير جونز بقوله: «لا يساورني أيّ شكّ في أن مثل هذا التقرير الشديد اللهجة قد وضع». أما مستشارو وزارة الخارجية الأمريكية فقالوا «إنّ الظروف الحالية تدعو أكثر من أيّ وقت مضى إلى كتم أيّ تقرير يتضمّن أيّ انتقادات لإسرائيل»، لماذا؟ لأنه لو نُشر هذا التقرير فإنّ خيوط المتورّطين في جريمة العصر التي ترتكب في غزّة تكون قد انكشفت قبل تحقيق أهدافها، ولاكتملت الصورة في أذهان من يراودهم الشكّ بأنّ إسرائيل تمارس أبشع ألوان الإبادة العنصرية الجماعية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ومرضى وعائلات يعيشون دون غذاء ودواء ودفء في هذا الشتاء، ولاقتنع من يشعر بالذنب تجاه ضحايا الإبادة، الذين تعرّضوا لجريمة الصمت أيضاً، أنّ عليهم أن يتحركوا اليوم والآن لضمان عدم تكرار تلك الجرائم البشعة التي ارتكبت بحقّ الإنسانية. ودور الإدارة الأمريكية لبوش ومجموعته في حرب الإبادة هذه هي منعها لمنظمات خيرية من إرسال أيّ مساعدات إلى المدنيين العُزّل في غزّة، بحجّة أنها مساعدات تستخدم لتمويل «الإرهاب» بعد أن تمّ تصنيف المليون ونصف المليون من المدنيين الفلسطينيين العُزّل بأنهم حماس، والتي تصفها الولايات المتحدة بأنها منظمة إرهابية، فتقطع الغذاء والدواء عن شعب بأكمله بحجّة معاقبة حركة مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي المتّسم بأقصى درجات الوحشية. ومن نافل القول إنّ الإدارات الغربية لا تطلق صفة «إرهابيّ» على عمليات الاغتيال التي ترتكبها فرق الموت الإسرائيلية، مع أنها سياسة حكومية معلنة في إسرائيل، التي يفخر العديد من قادتها بأنهم مارسوا الاغتيال وينشرون أسماء وتواريخ ضحاياهم من الشباب والقادة الفلسطينيين. الإسرائيليون يفاخرون بقتل الفلسطينيين، ويعتبرون جرائم القتل هذه وساماً يحقق لهم مكاسب سياسية. ولأنهم متأكدون من عدم المحاسبة على جرائمهم، فإنهم يسخرون من ضحاياهم بالحديث عن تنفيذ «اغتيالات غير قانونية»، معترفين حتى ضمن منطقهم الإجراميّ بأنهم يرتكبون «اغتيالات» ولكنها رسمية. والشرط الآخر لإحكام الخناق على غزّة وعدم السماح بإثارة ضجّة دولية حولها هو كتم أصوات العرب ومنع أيّ شكل من التضامن مع أهلهم في غزّة، ومن يدعو للتضامن مع غزّة يتعرّض للابتزاز إما بتهمة مشروع نووي سرّي، أو بالمحكمة الدولية وبالمقاطعة من أشقّائه. ولا يغفل الصهاينة في الوقت ذاته عن تطويق كتاب نشره وزير الخارجية النرويجي، يانوس غاهر ستورة، بعنوان «أن تقوم بشيء مختلف»، والذي كشف فيه أنّ الفلسطينيين يتعرّضون للتنكيل والتحقير، مثل رمي النفايات عليهم يومياً والضرب والإهانة وإغلاق متاجرهم من قبل المستوطنين اليهود، حيث جاء في كتابه «هناك شعارات عدائية كتبها المستوطنون على واجهات المحال العربية باللغة الإنجليزية مثل [الغاز للعرب]» فتنطلق موجات التشهير بالوزير النرويجي الذي زار مدينة الخليل عام 2006، ودوّن ملاحظاته ونشرها. كما لا تعيد الفضائيات، حتى العربية، الهجوم الذي تعرّض له بيريز في الأسبوع الماضي من قبل طلاب جامعة أوكسفورد البريطانية، حيث وصفوه بقاتل الأطفال ومجرم الحرب.

رغم كلّ هذه الحملة المحكمة أمنياً وإعلامياً وسياسياً ومالياً، فإنّ بعض أحرار العالم بدأوا بقول كلمتهم، وقد دفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، ولكنّ الخطوة التي لا بدّ منها اليوم هي أنه على العرب، وليس على الرسمين منهم فهؤلاء لهم أجندتهم الدولية، أن يتحرّكوا في جميع الاتجاهات والمحافل لكسر الطوق الإعلامي الذي فرضته إسرائيل على جرائمها المرتكبة في غزّة. وحتى الفضائيات العربية أصبح لها أجندتها الدولية، فهي التي تتشر ما هبّ ودب، ورفضت نشر المسلسل التلفزيوني «الاجتياح» ما عدا واحدة، مع أنه نال جائزة إيمي، وهي أرقى جائزة دولية، وذلك لمستواه الفني والموضوعي، كما أنّ فيلم «الاحتلال 101» قد نال جائزة السعفة الذهبية في بيفرلي هليز، ولكن لم يعرض على الفضائيات العربية. فهل وصل الاختراق الثقافي والسياسي حداً لا يمكن لنا معه أن نعوّل على الفضائيات العربية في العمل من أجل فكّ الحصار عن أشقائهم في فلسطين؟ وهل هي فعلا عربية، أم أدوات دعائية باللغة العربية لخدمة العدوّ؟ وللتذكير فإنّ والد رام إمانويل لم يفرّق بين عربي وآخر حين وصف العرب أنهم يكنسون الأرض. إنّ ما يعانيه أهلنا في غزّة يشكّل وصمة عار على العرب أولاً، وعلى الإنسانية أولاً، وعلى الديمقراطيات الغربية أولاً أيضاً ودوماً، وعلى مجلس الأمن أولاً وقبل كلّ شيء أولاً. إذ هل يعقل أن يُسمح لأيّ مجموعة بشرية أن تتعرض، عمداً وضمن سياسة حكومية أجنبية تحتلّ أرضها، للجوع والإبادة، وأن يموت المرضى في غرف الإنعاش بسبب قطع الوقود عن محطات الكهرباء، وأن يعيش الناس في ظلام دامس، بينما يجلس مئات الملايين من العرب، وفي الديمقراطيات الغربية، أمام شاشات التلفاز ويتناولون وجبات شهية ثمّ يخلدون إلى النوم؟!

لقد أصمّ الإسرائيليون آذان العالم، وكتموا على أفواه الرسميين العرب، فلا أحد منهم يحتجّ حتى على جريمة الحصار برسالة أو تصريح، ولكنّ التاريخ يؤكّد أنّ كلّ من يسكت عن جريمة قتل المدنيين العُزّل هو شريك في مؤامرة الصمت. الصمت عمّا يجري ضدّ المدنيين العُزّل في غزّة ليس مؤامرة فقط، وإنما هو مشاركة في جريمة الإبادة ذاتها. على العرب ألا يناموا ليلة أخرى دون أن يغيّروا مشهد التجويع والحصار في غزّة، ودون أن يعيدوا لأهل غزّة حقّهم الطبيعي في الخبز والدواء والكهرباء والحياة الكريمة، والحكام، والإعلاميون، وحتى المواطنون قادرون على ذلك لو أرادوا، ولا شكّ أنّ جميع أحرار العالم سينهضون لنصرتهم. أما ما على المحتلّ أن يفهمه هو أنّ العرب ليسوا هنود المنطقة الحمر، وأنه كلما استشهد مناضل أو كاتب أو شاعر أو مقاوم أو فنّان، وأنه كلما قتل الإسرائيليون في غزّة طفلاً بالجوع، ومريضاً بقطع الدواء، وكلّما أبادوا عائلة بصاروخ، ولدت هذه الأمة المئات. وإذا كانت قوات الاحتلال العنصرية وقادته يشعرون بالاطمئنان لأنهم نجحوا في فرض مؤامرة الصمت على العرب، وعلى ضمير العالم اليوم، فإنّ هذه أمة لن تموت، وسيأتي يوم تنكشف فيه الجريمة والمتورّطون فيها، فتلبسهم عاراً، وليتذكّر باراك وليفني كيف يتذكّر العالم هتلر، وبول بوت، وأمثالهم من طغاة الإبادة.

www.bouthainashaaban.com