رجاءً.. ارحموا الإسلام والمسلمين

TT

عندما كنت يافعاً كان يضايقني جداً المثل القائل «عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل»، ولم أكن أرى فيه أي منطق، لأن العدو العاقل هو الأقدر على التخطيط للإيذاء. ثم أن استخدام «أفعل التفضيل» في هذا السياق غير مناسب، بل الصحيح القول «الصديق الجاهل أسوأ من العدو العاقل»، وعندها قد تستقيم العبارة لغوياً ويتضح القصد.

في أي حال بمرور السنين وتراكم التجارب، أدركت أن حتى أخبث الأعداء وأمكرهم لا يمكن أن يوقع الأذى الذي قد يتسبّب فيه الصديق عندما يسقط فريسة للجهل أو تستبد به الجهالة.

هذا ينطبق على المأساة الفظيعة التي عشنا فصولها عن بعد في الهند، والتي أصرّ مرتكبوها على انتحال صفة الإسلام، والزعم أنهم إنما يقاتلون دفاعاً عنه ولإعلاء شأنه.

الوقت ما زال مبكراً لاكتشاف كل خفايا هذه الجريمة، التي هي حقاً كذلك ليس فقط بحق الضحايا التي سقطت خلال الأيام الماضية، بل أيضاً بحق الضحايا التي قد تسقط مستقبلاً في الهند وغيرها بسلاح الحقد الديني والطائفي المضاد المعادي للمسلمين.

رئيس الوزراء مانموهان سينغ لمّح بالأمس إلى دور لـ«دول جارة» بالتزامن مع التسريبات الأمنية عن أن زورقين آتيين من باكستان حملا الإرهابيين إلى مدينة ممباي. والكلام عن «الدولة الجارة» مع تذكر ما بين الهند وباكستان من عداء منذ طلاقهما عام 1947 يستحيل أن يعني جزر المالديف أو مملكة بهوتان.. ولا بد أن السلطات الهندية تتهم باكستان. وهذا الاتهام لا يعني بالضرورة سلطات إسلام آباد الحالية، وتحديداً حزب الشعب الباكستاني الذي هو على عداء علني مع الجماعات الأصولية المتشددة في باكستان.. لكنه لا يكون مجانباً الصواب إذا كان يقصد بعض الجماعات المتشددة داخل الجيش الباكستاني، وبالأخص داخل جهاز استخباراته. والمعروف أن جهاز الاستخبارات الباكستاني لعب دوراً محورياً في دعم حركة المجاهدين الأفغان إبان فترة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، ثم في دعم حركة طالبان ومساعدتها للهيمنة على معظم أراضي أفغانستان. ولا دلائل اليوم على أن دعم بعض الجهات الباكستانية النافذة لطالبان، ولحلفاء طالبان، قد توقف بعد إسقاط الولايات المتحدة حكمها رداً على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

أضف إلى ما سبق أن «الفلسفة» السياسية والعسكرية للجيش الباكستاني تقوم على اعتبار النموذج الهندي، بتعدّديته وديمقراطيته، نموذجاً سياسياً مناقضاً لمصالح المسلمين، ويتخذ من قضية كشمير حجة جاهزة للإبقاء على شعلة العداء مع الهند متقدة. وبالعودة إلى تاريخ الحركة الاستقلالية الهندية نلحظ انقسام القيادات المسلمة بين تيار «انفصالي» ـ البعض يعتبره براغماتيكيا ـ يرى استحالة التعايش بين المسلمين كأقلية مع الهندوس على رأسه محمد علي جنّه. وكان من قادته الفكريّين أبو الأعلى المودودي والدكتور محمد إقبال، وبين تيار «اتحادي» يؤمن بالتعدّدية وحقوق الإنسان ضمن الوطن الهندي الاتحادي الواحد على رأسه أبو الكلام آزاد والدكتور ذاكر حسين وغيرهما.

تقسيم إقليم كشمير، ذي الغالبية المسلمة، بين الهند وباكستان.. وبقاء القسم الأكبر منه وبغالبية مسلمة ضمن الهند ظل ـ كما سبقت الإشارة ـ الحجة الجاهزة لاستمرار التوتر والعداء. ورغم التعدّدية والديمقراطية أخفقت حكومات نيودلهي المتعاقبة في حل أزمة كشمير، كإخفاقها في حل أزمات عرقية وطائفية أخرى في مختلف أنحاء الهند.

لكن التأزمَ تفاقم بمرور الزمن، وأنتج على جانبي خط الحدود المرسوم عام 1947 قوى متشدّدة تستفيد من التشدّد المقابل عبر الحدود. وكما أن هندوسياً متشدداً اغتال المهاتما غاندي (أبو استقلال الهند) بتهمة محاباة المسلمين، تحوّلت الشراذم الهندوسية المتشدّدة كحزب جانا سنغ وحزب سواتانترا، والتي كانت هامشية في حياة الهند السياسية لفترة طويلة في ظل هيمنة حزب المؤتمر الهندي وشرعيته النضالية، إلى قوى حقيقية نافذة. وعندما اندمجت قواها المختلفة في حزب «بهاراتيا جاناتا» القومي الديني نجحت في إزاحة حزب المؤتمر عن السلطة.

ومن المفيد الإشارة إلى أن لال كريشنا أدفاني أبرز زعماء «بهاراتيا جاناتا» ولد قبل تقسيم الهند في مدينة كراتشي عاصمة السند، وكبرى مدن باكستان. كما أن ناريندا مودي رئيس وزراء ولاية غُجَرات، المتاخمة للسند، والتي ثمة أزمة عرقية ودينية وحدودية قديمة بينها وبين باكستان، يُعد من أكثر الساسة الهندوس تشدداً وعداءً للمسلمين. وكان قد اتُهم صراحة بالتواطؤ في أعمال العنف الشرسة ضد المسلمين عام 2002 بعد إقدام مسلمين متشدّدين على جريمة إحراق قطار بركابه في بلدة غودرا. ويُقال أن عدد القتلى في أعمال العنف الانتقامية ناهز الألفي قتيل.

في المقابل، تولّد ضيق في بعض الأوساط المسلمة في الهند من دور نيودلهي المساعد على تقسيم باكستان، وتأييدها النشط انفصال باكستان الشرقية، التي أصبحت بنغلاديش عام 1971. أيضاً خلق تصاعد شعبية القوى الهندوسية المتشدّدة ونفوذها، ولا سيما في ولايات «الحزام الهندي» الكبيرة (مثل أوتار براديش وبيهار ومهاراشترا)، قلقاً متزايداً عند المسلمين. ووصل الأمر إلى نقطة الخطر مع إقدام جماعات هندوسية متشدّدة بتحريض مكشوف من «بهاراتيا جاناتا» عام 1992 على هدم المسجد البابري الأثري الشهير في آيوديا (بشمال الهند) المشيد في القرن الـ16. وبالتالي، كان من البديهي أن تنمو قوى متشددة وراديكالية وسط 154 مليون مسلم هندي ترى من حقها مواجهة الهندوسية الشرسة بـ«إسلام» شرس يجيد الدفاع عن نفسه، وإذا اقتضى الحال إحداث خلل في المعادلة التعددية الهندية التي أخذت تبدو «طوباوية» أكثر من اللزوم. ومما لا شك فيه أن بين الإرهابيين الذين ارتكبوا جريمة ممباي بالأمس شبابا هنودا.. وإن كانت مشاربهم السياسية والتنظيمية قد تأثرت بقوى «خارجية» حسب رأي الحكومة الهندية.

في هذه الحالة يجب طرح سؤالين؛ الأول على الحكومة الهندية، والثاني على القوى التي تحارب الكيان الهندي باسم الإسلام.

أليست هناك خطوات عملية يمكن لنيودلهي تجربتها لتنفيس الاحتقان الإسلامي، ومنها ـ مثلاً ـ القبول بنتيجة انتخابات ولاية جامو وكشمير مهما كانت النتيجة.. وعزل تهديد الانفصال الإسلامي عن باقي عناصر هاجس «حجارة الدومينو» الذي يقلق السلطة الهندية؟

وهل يرى المسلمون المتشددون أن نموذجي باكستان وبنغلاديش ـ الفاشلين بكل المقاييس ـ نجحا إلى درجة تستحق استيرادهما لمسلمي الهند، وبثمن إنساني باهظ قد يدفع ثمنه ملايين الأبرياء من أرواحهم وأرزاقهم؟