باختصار.. مللنا

TT

هناك بعض الوظائف والمهمات التي لا تتحمل بأن توصف إلا بالمدهشة، وظائف ومهام مثل وزير السياحة الأفغاني، ورئيس الموانئ المنغولي والمسؤول في الجيش اللبناني. فالذي يشاهد الاستعراض العسكري، الذي أجراه الجيش اللبناني بكافة عناصره في مناسبة عيد الاستقلال مؤخرا، لا يملك سوى الاستغراب مما يحدث في لبنان. فالمراقب لهذا الاستعراض لا يمكن إلا أن يقارن مع ما رآه في مناسبات «أخرى» مثل استعراضات حزب الله العسكرية بسلاحها وعتادها وشعاراتها وأعلامها وصورها المرفوعة، أو مع لقاءات حزب الكتائب بتحيتهم العسكرية المرفوعة وهي تذكر بعهود الفاشية ورموزها البائسة، أو لقاءات الحزب القومي السوري الاجتماعي وشعاراتهم الشبيهة بالصليب النازي المعقوف. كل كيان له حزب وشعار وعلم وحتى أحيانا ناد رياضي ومحطة فضائية وإذاعة وبعض المطربين، كلهم يدعون حب لبنان ولكن لا أحد منهم حقيقة يحب لبنان. مغرمون بأنفسهم وعاشقون لذاتهم.. إنها النرجسية السياسية في أقبح صورها. التوريث السياسي تجلى في أحزاب لبنان السياسية قبل أن تنطلق العدوى لبعض الجمهوريات في العالم العربي، فكل إقطاعية تحولت لجزيرة وكرست رمزا لها، ثم ورثت سلطة هذا الرمز إلى سلالته والجميع يسير على هذا الدرب. وطبعا لزيادة «الأثر» الشعبي وتمكين السيطرة على قلوب الأتباع من الناس كان لا بد من وجود أيقونة عاطفية تأسر الألباب وتدمي القلوب.. كان لا بد من وجود «شهيد»، وبالتالي كان لكل حزب وطائفة «شهيدها» الذي تنشر صوره وتطلق أقواله وتفرد المساحات لأسطورته وحياته. لا يمكن للبنان أن يحيا أو ينشد الديمقراطية ويروج لنفسه أنه واحتها في العالم العربي بأسره وأحزابه وطوائفه ما هم سوى تكريس للحكم المتسلط، كل حزب أو طائفة تكون العامة التابعة له أسيرة المال أو الجاه أو السلطة لزعيمها، فبالتالي تتكون علاقة مضطربة وغير سوية، أو على أقل تقدير علاقة غير ديمقراطية. عشرون عاما من الحرب الأهلية المدمرة، عقود من النعرات والشعارات المفرقة والمنفرة لم يتعظ منها اللبنانيون كما يبدو أبدا.

ملامح العودة إلى الماضي، ورفع لغة الشعارات والتنديد والوعيد تعود لتظهر في المناسبات تذكيها حماسة كبيرة لدى جيل جديد «طازة» لم يعرف أهوال الحرب ولم يعش في أجوائها، وبطبيعة الحال لم يجلس مع حكماء القوم ليقولوا له الحقيقة كما ينبغي. لعل أجمل ما في شعارات لبنان هو نشيدها الوطني الذي يبدأ بعبارة رومانسية جدا وخلابة للغاية «كلنا للعلم» ولكن المسألة على أرض الواقع غير ذلك لأن «كلنا» لسنا سواسية، وعلي أي عَلم تتحدث مع وجود أعلام كثيرة أخرى غير العلم اللبناني، تأخذ نصيبها في الحضور وبأعداد أكبر من العلم الوطني نفسه. لم يعد لبنان سويسرا الشرق أو باريس العرب، ولكنه تحول إلى قطعة من الجبن السويسري مليئة بالثقوب، كل ثقب يمثل طائفة تأكل من وطنها. مصح نفسي سياسي كبير بات من المفروض أن يكتب عليه «ممنوع الإزعاج». مللنا من مشاكل لبنان وتكرارها بهذا الشكل غير الناضج وغير المسؤول ومللنا من حجم المساحة التي يستهلكها من إعلامنا ووقتنا.

[email protected]