الجهادية الانتحارية وبقرة الهند المقدسة

TT

هناك هندي مسلم واحد بين كل عشرة هنود. أي أن هناك مسلمين في الهند (أكثر من مائة مليون) أكبر من عدد مسلمي مصر والعراق وسورية. الهند أكبر ديمقراطية في العالم. منذ غاندي ونهرو، تؤكد الهند علمانيتها. انتخبت مرارا رئيسا مسلما. حزب المؤتمر الحاكم يبدي تعاطفا مع المسلمين الهنود، ويعارض الأحزاب الهندوسية المتعصبة.

أصر المسلمون الهنود على الانفصال. أسس الزعيم الاسماعيلي محمد علي جنة دولة باكستان. سبب الانفصال بسيط: المسلمون يأكلون البقرة. الهندوس يقدسونها. اغتال هندوسي متعصب زعيم الهند غاندي بتهمة التعاطف مع المسلمين. ذُبح مليونا مسلم وهندوسي في طرق تبادل السكان عند تأسيس الدولتين (1947).

كان مصطفى النحاس الزعيم العربي الوحيد الذي عارض تقسيم الهند. كان زعيم حزب الوفد الليبرالي بعيد النظر. ربما كان يخشى أن يكون التقسيم سابقة لانشاء دولة للأقباط في مصر، أو لتقسيم العالم العربي إلى دويلات طائفية أو عرقية (العراق حاليا).

هذه الصورة المشرقة للهند الدولة الديمقراطية العلمانية تختلف تماما عن الصورة السلبية الداخلية. هناك تحيز فاضح ضد الأقلية المسلمة. هناك هضم لحقوقهم وتعصب ضدهم في الإدارة والقضاء والشرطة والأمن والمجتمع. وما زالت المدن تشهد مذابح جماعية بين الجانبين.

مضى عصر غاندي. تهاوى مبدأ اللاعنف الذي بشر به وكان ضحية له. منذ صحوة الذاكرة استعاد المسلمون والهندوس الهوية الدينية الأضيق من الوطن، المسلمون يطالبون بحقوقهم ليس بالنضال السياسي، وانما بالتعصب لدينهم. الهندوس المتعصبون أشد ميلا للتعامل بالقمع والعنف مع الاقليات العرقية والدينية، بحجة الخوف على وحدة الهند.

كأي استعمار، اعتمد الاستعمار البريطاني مبدأ «فرِّق تسد». راعى الأقلية المسلمة. وضعها في مواجهة الغالبية الهندوسية. اعتنق الإسلام الهندي المعاصر مبدأ «جاهلية المجتمع». من مصادفات الفكر الإسلامي المحزنة أن أديبا رقيقا كسيد قطب كان مأخوذا في شبابه بأناقة ورهافة «التصوير الفني في القرآن، قرأ الإسلام الهندي، إسلام الندوي والمودودي. تأسلم سيد قطب في كهولته، وتشكل فكريا وسياسيا وفق إسلام الحصار الهندي، إسلام الأقلية الإسلامية في مجتمع هندوسي. اعتنق قطب خطأ مبدأ جاهلية المجتمع»، كَفَّرَ المجتمع العربي ذا الغالبية الإسلامية!

أخطأ عبد الناصر في شنق مثقف الاخوان الوحيد سيد قطب. الفكر، أي فكر، لا يمكن إعدامه أو شنقه، الفكر يجب أن يقابل بالفكر. كان عبد الناصر اشتراكي الستينات مأزوما خائفا من انقلاب يميني أو إخواني، فيما كان قطب في ذروة الحماسة لإسلام عصبي، إسلام ضيق ومحاصر، بحيث بات كتابه «معالم في الطريق» الكتاب المقدس لدى جهاديات العنف الديني التي انشقت عن الإخوان.

ولدت باكستان من رحم الديمقراطية الهندية، لكن لم تعرف الديمقراطية قط. أنشأت جيشا قويا. غير ان الشجاعة انهزمت أمام الكثرة في حروب مع الهند أدت الى انفصال بنغلاديش (باكستان الشرقية). تأسلمت دكتاتورية الجنرال محمد ضياء الحق لكي تضفي الشرعية على نظامها، بعد شنقها الرئيس المنتخب ذو الفقار علي بوتو. بدلا من مصالحة الإسلام الباكستاني مع الحداثة والديمقراطية، انشأت الدكتاتورية جهازا مخابراتيا!

«من راقب الناس مات هماً»، مات ضياء الحق في حادث سقوط هليكوبتر غامض، لكن بعدما وُلد تنظيم «طالبان» الأفغاني الباكستاني في رحم مخابراته وفي «الكتاتيب» المدرسية التي تُلَقن تعاليم الإسلام الحربي في القرون الوسطى، وهكذا، استورد الإسلام الباكستاني من الإسلام العربي والإخواني إسلام الحصار الذي طوّره سيد قطب وغيره عن الإسلام الهندي.

بقية القصة معروفة عربيا ودوليا: التقى تُقَى «القديس» كارتر مع خرف وريثه ريغان. شهرت أميركا السيف الديني في حربها الباردة مع خَرَفِ وخريف بريجنيف المتورط بغزو أفغانستان. تحالفت أميركا مع إسلام المخابرات الباكستانية الطالباني. استوردت أيضاً عشرات ألوف الجهاديين العرب الذين نشأوا في مستودعات السادات وبورقيبة والشاذلي..

السيف «الجهادي» ذو حدين بعد النصر في أفغانستان، انقلبت الجهاديات الانتحارية على أميركا والنظامين العربي والباكستاني. بخصوص باكستان، استوطنت طالبان و«القاعدة» المجاهل الجبلية الحدودية مع أفغانستان التي شكلت طريق الحرير في القرون الوسيطة، فيما استوطنت جهاديات انتحارية مماثلة كشمير الاسلامية التي عُني الانجليز قبل الرحيل بتقسيمها عمدا بين الهند وباكستان، لتظل قميص عثمان المثير للمتاعب بين الدولتين النوويتين الجارتين.

الديمقراطية الهندية تتحمل أيضاً مسؤولية كبيرة. فوضى الحرية واللامبالاة الديمقراطية في معالجة جذور الأزمة الاجتماعية والدينية، وصعود الأحزاب الهندوسية المتعصبة إلى الحكم في التسعينات.. كل ذلك أدى إلى التعامل بمزيد من القسوة مع الأقليات (التاميل. السيخ. المسلمون..).

نشأت في حضن اليأس من الديمقراطية الهندية أجيال شبابية مسلمة أكثر ميلا إلى العنف، أمام القمع، التحق مئات من شباب العنف بالتنظيمات الجهادية، سواء تلك التي احتضنتها المخابرات الباكستانية في كشمير (جيش محمد) أو (لاشقر طيبة) التي أسستها بنصيحة ومشاركة مع أسامة بن لادن في نهاية الثمانينات، كما يروي كتاب (البحث عن القاعدة) الذي صدر أخيراً بقلم الخبير الأميركي بروس ربدل.

هذه التنظيمات قامت بعمليات مروِّعة في كشمير الهندية والداخل الهندي. كان الهجوم الجهادي على مجلس النواب الهندي الرمز المعبر للديمقرطية الهندية صورة سلبية للإسلام الجهادي، كرافض لمبدأ الحرية السياسية وتعدديتها الهندية وغير الهندية.

تلك هي جذور المجابهة بين الجهادية الانتحارية وبقرة الهند الهندوسية، الوضع السياسي في شبه القارة الهندية بالغ الخطر بعد عملية مومباي عاصمة الهند الاقتصادية ونافذتها البحرية على العالم وبحر العرب وخليجهم. النظام الباكستاني الديمقراطي الجديد لوح بغصن الزيتون للهند، كلما تقارب البلدان لجأت الجهاديات الانتحارية إلى عمليات مبالغة عمدا في إهراق الدماء، سواء للتحريض على تدين السلام الاجتماعي الداخلي، أو لوضع البلدين على عتبة حرب جديدة بينهما.

لم يكتمل التحقيق بعد. سارعت الهند إلى اتهام باكستان، في الوقت الذي رفض الأمن الهندي أية مفاوضات مع الجهاديين الانتحاريين للإفراج عن الرهائن، مما أدى إلى عمليات اقتحام رفعت عدد الضحايا (195 قتيلا إلى الآن).

مقتل الاسرائيليين الخمسة في المركز اليهودي يعكس مدى النقمة في العالم الاسلامي على اسرائيل لما تفعله في القدس والضفة وغزة.

هل للمخابرات الباكستانية ضلع في عملية مومباي. نظام آصف زرداري الباكستاني لا يسيطر على مخابراته الأخطبوطية. إذا كانت المخابرات الباكستانية متورطة فعلا لإحراج الديمقراطية الباكستانية الوليدة، فهي عندئذ بلدها تورط في حربين، حرب قائمة ضد طالبان والقاعدة على الحدود مع أفغانستان، وحرب محتملة مع الهند.

إذا كان من درس للعرب يمكن استخلاصه من الأزمة، فهو تكرار النصيحة بعدم الاقتراب والتعامل مع خلايا وتنظيمات الجهادية الانتحارية. دمجها في صميم التيار السياسي العام يشكل خطرا أمنيا بالغا على السلام المدني والأمن القومي العربي. لعل النصيحة المتكررة تصل إلى الآذان الطويلة، في سورية ولبنان.