الجرح الإسلامي في الهند

TT

العلاقات تغلي بين الهند وباكستان، من خلال رفع الاستعداد لمستوى الحرب كما قال وزير الشؤون الداخلية الهندي، ومن خلال استدعاء السفير الهندي لدى باكستان، وكثرة الاتهام للأخيرة بترك الإرهابيين يأتون من أرضها ليمارسوا الإرهاب المتنوع في المدن الهندية، وآخرها هجمات مومباي المروعة، وباكستان، آصف زرداري، تنفي هذه التهم وتطلب من الهند أن تتريث وتهدأ من ثائرتها.. هذا المشهد الذي نراه الآن، تقريبا هو نسخة مكررة مما جرى في ديسمبر(كانون الأول) 2001 عقب قيام مجموعة مسلحة بالهجوم على مقر البرلمان الهندي بنيودلهي، وقتل وجرح العديد، فحينها اتهم رئيس الوزراء الهندي فاجبايي، باكستان بالتساهل، ونفى رئيس وزراء باكستان الذاهب، برويز مشرف، هذه التهم وقال إننا والهنود في مركب واحد ضد الارهاب، ووجهت اصابع الاتهام حينها للجماعات الاصولية الباكستانية ذاتها: عسكر طيبة، ومجاميع متصلة بطالبان الباكستانية، مع وجود تواطؤات داخل الأجهزة الأمنية الباكستانية، واستمر التصعيد الى درجة التراشق المدفعي على الحدود حتى يناير (كانون الثاني) 2002. ولا ندري الآن عن مصير هذا التصعيد بين الهند وباكستان، رغم اختلاف الحكومات من 2001 الى هذه اللحظة، فأثناء أزمة الهجوم على البرلمان الهندي كان رئيس حكومة الهند رجلا ينتمي الى حزب هندوسي يميني، وهو فاجبايي، ورئيس باكستان هو الجنرال مشرف، عدو الإرهابيين الإسلاميين الأول، والذي توعد الظواهري وبن لادن بقتله عدة مرات. وحاول البعض قتله بالفعل من خلال تفجير موكبه مراراً، والآن يرأس حكومة الهند رجل ينتمي الى حزب المؤتمر الهندي، سليل تقاليد نهرو، وغاندي، ويرأس باكستان، آصف زرداري وهو رجل تمكن من الوصول لزعامة الحزب ثم الدولة بعد قتل زوجته، بنازير بوتو، على يد الأصوليين الباكستانيين. إذن فباكستان والهند، كل طرف منهما عانى من الإرهاب الإسلامي ما عانى، وباكستان الدولة والسلطة تخوض حربا شرسة ضد الإرهابيين، أعنف من حرب الهند نفسها، فليس من المعقول اتهام حكومة باكستان بأنها طرف داعم، او متساهل حتى، مع الجماعات الإرهابية، لأن الجماعات الإرهابية، ببساطة، تكفر او تخون السلطة في باكستان.

من الطبيعي ان تستغل المعارضة الهندية الأعمال الارهابية التي وقعت في مومباي من اجل اتهام حكومة المؤتمر بالتساهل مع الأصوليين الاسلاميين، ويتكلم اعضاء وقيادات حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي عن وجوب شن حرب مفتوحة بلا هوادة على أي اسلامي او جماعة دينية اصولية، الأمر الذي قد يثير حساسيات صعبة في الهند الذي يمثل المسلمون فيه حوالي 25% من النقطة الأخيرة، اعني كون المسلمين أقلية في الهند، نفهم جوهر الأزمة الحقيقية في كل هذه الأزمات المتتابعة بين الهند وباكستان منذ استقلال الأخيرة عن الهند 1947.

تاريخ أزمة الذات المسلمة مع نفسها في الهند أعمق مما نتصور بكثير، ولا أبالغ إن قلت إن «الجرح الهندي» المسلم هو أول الجراح التي ولدت الجراح المتتالية بعدها وصولا الى حسن البنا فسيد قطب فعمر عبد الرحمن، فأيمن الظواهري، كنموذج مصري لهذا الأثر الجرح الهندي الأول، ومثله من الآثار تم في بلاد الشام من خلال حركات الإخوان وحزب التحرير، وغيرها من الآثار لهذا الجرح الهندي، في أماكن متعددة. بداية يجب أن يتضح هنا أن المقصود بالهند ـ فيما بقي من المقال ـ هو الهند كمساحة جغرافية شاملة لما سمي لاحقا بباكستان الشرقية والغربية، وأفغانستان، والهند الحالية طبعا، وعليه فأزمة «الإسلام الهندي» التي نعنيها هنا تشمل خطاب وفكر وسلوك الجماعات الأصولية والاسلامية في باكستان وأفغانستان وبنغلاديش والهند نفسها، وربما الجاليات الباكستانية والهندية المسلمة في بريطانيا.

وحتى نتصور عمر وصورة و تسلسل الجرح؛ جرح الهوية الكبير، نتوقف عند بعض الأحداث التاريخية التي عصفت بوضع المسلمين في قارة الهند.

حسب بحث أعده المفكر الهندي راشد شاز عن أزمة المسلمين في الهند، فإنه منذ توفيَّ الامبراطور المغولي المسلم «اورانجزيب» آخر ملوك المسلمين في الهند 1707 مـ وخلال المائة وخمسين عاما اللاحقة، لم تفلح جهود المسلمين في المقاومة، وصد الهجمات الاستعمارية وغيرها، حتى سقطت دلهي عاصمة المسلمين سنة 1857 بيد البريطانيين، فوجد المسلمون انفسهم لاول مرة في التاريخ وجها لوجه امام نظام أجنبي غير مسلم ومعادٍ، فأعلن علماء الدين «الجهاد» ضد الكفار، لكن لم يثمر الأمر في استرداد الهند للمسلمين. (مأزق المسلمين الهندي، ص 6، مطبوعات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية). وحدد راشد شاز الفترة من 1857، سنة سقوط دلهي بيد البريطانيين، الى 1947، سنة انفصال باكستان عن الهند، بأنها الفترة التي شهدت اكبر تحول في فكر المسلمين من أبناء القارة الهندية.

بدأ الجدل بين مسلمي الهند الذين فجعوا بسقوط الحكم المسلم، ووجود انفسهم يواجهون واقعا جديدا وصادما، وهو أن ينقادوا لحكم غير مسلم، بل يتم تركيب الحكم وفكر الدولة على أسس جديدة، صارت بعد جلاء البريطانيين، أسسا علمانية، تهيمن فيها على المشهد السياسي أكثرية عددية هندوسية، لم يستطع معها المسلمون ان يجدوا لأنفسهم فيها تعريفا شرعيا ينسجم مع المنطلقات المقررة في فقه السياسة الشرعية لدى المسلمين، الذي من اول مقرراته انه: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا».

دار جدل طويل عريض بين نخب المسلمين في الهند حول فكرة العلمانية والديمقراطية والشرعية وتعريف دار الحرب ودار الاسلام، جدل استغرق حوالي مائة عام من 1857 الى 1947 كما أشار راشد شاز، وأنتج هذا الجدل افكارا ونظريات عدة من السيد احمد خان الذي حاول ان يوجد صيغة شرعية اسلامية تكفل التعايش للمسلمين في ظل وضعية الهيمنة البريطانية، وظهر الشيخ احمد سرهندي الذي حاول ذلك أيضا، ثم المفكر شبلي نعماني الذي رأى ان مشكلة المسلمين وسبب تخلفهم تكمن في مقاومة العقلانية وثقافة العقل وان جذور المشكلة تعود الى غلبة التيار الاشعري على التيار الاعتزالي، في اول التاريخ العباسي، ثم ظهر جمال الدين الافغاني، وهو ابن تلك المرحلة بامتياز، ودعا الى ظهور روح جديدة من الاجتهاد بين المسلمين. ولو تذكرن جيدا، فسيد قطب الذي ارتبط اسمه بفكرة الحاكمية ملخصة بشكل متفجر في كتيبه «معالم في الطريق» وموسعة في عمله الضخم «في ظلال القرآن» كان يحتفي كثيرا بالمفكر الهندي (قلت الهندي عمدا ولم اقل الباكستاني) أبي الأعلى المودودي، واتكئ كثيرا على تنظير المودودي حول فكرة الشرعية والحاكمية، والتي هي، اعني افكار المودودي، نتاج هذا المخاض الطويل من أزمة مسلمي الهند الخاصة جدا، وكانت مقدمة عقيدية في تأسيس وشرعنة انفصال باكستان، ارض المسلمين، عن الهند الهندوسية البريطانية، لكن المصري سيد قطب نقلها، وهنا تكمن فرادته وخطورته، الى السياق العربي الاسلامي في ظل تنامي الخصومة بين الاخوان المسلمين ودولة ضباط يوليو من رفاق عبد الناصر.

الذي يبقى، للأسف، من اعمال سيد قطب او المودودي ومن شاكلهما، هو الجانب النظري التجريدي، وينسى الظرف والباعث الذي حفز مثل هؤلاء على الكتابة والتنظير بهذا الشكل، ليأتي جيل لاحق ينقل هذه الافكار ويستدل بها في سياق خصومات أخرى.. وهكذا دواليك.

مشكلة الهوية الإسلامية بقارة الهند، كانت هي الرحم الأول الذي أنجب لنا سلسلة مشكلات طويلة في الفكر السياسي لدى المسلمين. وعمق هذه الكارثة الفكرية سقوط «الخلافة» العثمانية، وتعمدت استخدام مصطلح

«الخلافة» للإشارة الى الثقل المعنوي الذي تم التعامل به مع حدث انتهاء دولة بني عثمان، التي لم تكن بذلك الشكل الرومانسي الذي رسمه الاخوان وغيرهم عنها لاحقا، وحتى مسلمو الهند ظلوا لفترة طويلة يدعون للخليفة العثماني ويعتبرون أنفسهم جزءا من «الأمة العثمانية» بعد زوال غطاء الامبراطورية المغولية عن الهند، فكانت الضربة الثانية القاصمة لهم بإعلان إلغاء الخلافة العثمانية 1924.

هذا الحديث الذاهب بعيدا في جذور الأزمة بين باكستان والهند بمسلميها وهندوسها، هو من اجل أن ندرك أن ما جرى من إرهاب بمدينة الاقتصاد الهندي ليس حدثا نائيا في أقاصي الأرض، بل هو وثيق الصلة بنا نحن سكان البلاد العربية، حيث أن بواعث الأزمة الفكرية والهوية الشرعية لدينا، لها صلة رحم بالأرض الهندية، وجراحنا هنا هي من ذلك الجرح العتيق الذي ما زال ينزف منذ دق الانجليز أبواب دلهي عام 1857.

[email protected]