لبنانُ خارج الوهم السياسي؟

TT

أيمكن لكلِّ مَنْ يغادرُ لبنانَ ويعودُ إليه بعد حين ـ كما هي حالنا نحن الأدمغة المهاجرة العائدة ـ أن يراه بعين مجردة كالسابق؟ من النافل القول إن الوطن لا يُختزل بسياسة ولا يُحصر برؤية. مع ذلك، لا مناص من تحليل مُتَروٍ وموضوعي، بعيد من كل التجاذبات، يسمح بطرح السؤال: هل يعيش اللبناني في دائرة الوهم الاجتماعي بعدما استدرج لبنان ذاته الى دائرة الوهم السياسي؟ نرى، ونحن على قلق بين أوروبا ولبنان، أننا نعيش مرحلة بناء آمال على أوهام لا تعكس واقعاً بل تنقلنا إلى مرحلة بناء الوهم على الوهم. فكلّ مسافرٍ، طالب علم أو «هُجرة»، يذهبُ الى دول «متقدمة» تكنولوجياً، بغضّ النظر عن اندهاشه للوهلة الأولى بجمالياتها وتنظيماتها، وبدون اكتناه لسراديبها وسياساتها الخفية، إنما لا يستطيع، بعد فترة من الإقامة فيها، غضَّ النظر عما يجري أو تجنب التفاؤل عن أسباب «تقدمها» ونزوات «تخلّفنا».

لاحظنا على مدى سنوات من رحلاتنا العلمية بين لبنان وأوروبا، فضلاً عن أهمية الدور المحوري للمراكز الفكرية في تطوير الجماعات وتثقيفها (طارق خليل، جريدة السفير، 23/06/2008)، أنّ الأهم هو عدم التخلي عن الزراعة والتصنيع كعاملين مُحددين لاستقلال الدولة وغنى المجتمع واستقراره المتوازن، خصوصاً بعد ما لحظناه من انهيارات مالية وتداعيات اقتصادية ـ بعضها نفسي ـ اجتماعي، صادرة عن اعتماد على ثروات وهمية مبنية على مضاربات في البورصات والعقارات. فتحويل لبنان من ارض منتجة الى «جدار مال» أي بلد خدماتي وسياحي، بغضّ النظر عن مدى دقة سياسة كهذه وعن مدى نجاح تطبيقها على أرض الواقع، إنما أنتج عاملاً سياسياً مناقضاً في أساسه لمفهوم بناء وطن. ومن البداهة التأكيد على أن وطناً لا يٌقام كدكان على شاطئ بحر بلا ضفاف، ولا يُبنى على تحقيق ملذات الآخرين ورغباتهم الاستهلاكية، أياً تكنْ المبررات الخاصة بموقع لبنان الجغراسيّ الذي يمكن استثماره ليس فقط كمركز سياحي، بل أيضاً وخصوصاً كمركز فكري إبداعي على صعيد التواصل بين الشرق والغرب، كما أقترح حديثاً رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. وعندنا أنّ عدد سكان لبنان، مثلاً، كافٍ لتطويره ذاتياً، أسوة بدول «متقدمة» صناعياً كالدانمارك وغيرها، إذا جرى تحويله الى طاقة فاعلة في الزراعة وبعض الصناعات الحديثة.

إلى ذلك، تُقتضى الإشارة إلى خطورة المنحى الذي اتخذته السياحة في لبنان، والمتحولة أكثر فأكثر إلى ما بات يُوصف ـ للأسف ـ بالسياحة «الجنسية» التي أفضت على مدى سنوات ماضية إلى تغيير ثقافة اللبناني، الذي لم يعد مقتنعاً ولا قانعاً بمفهوم الدخل المحدود، اقتصادياً، ولا بمفهوم هويته الاجتماعية، فانقاد وراء لعبة التماثل الاجتماعي ـ ولا سيما لعبة التبرجز الاستيهامي، الفانتاسمي ـ مما جعله يعيش تناقضاً ملحوظاً في حياة متقلبة وقلقة. ذاك أنّ لبنان بلد فقير بمقوماته الاقتصادية، ومُفْقَر بمديونيته العالية التي فاقت مثلا مديونية الجزائر، بينما شعبُه يعيش نمطَ المجتمعات الغنية. لكنْ بوهم. فالمجتمع اللبناني هذا محافظٌ ظاهرياً، منفتح بل متسيّب في عمقه الاجتماعي ومتروك لعشوائية افراده ومكوناته.

عليه، نتساءل: أي ثقافة تُقدّم للجيل اللبناني الراهن؟ وأي ثقافة ستورَّث للأجيال التالية؟ وبالعود على البدء، يُعاد طرح مشكلة الأرض حيث لم يجرِ تطوير السياحة في لبنان، انطلاقاً من الحفاظ على البيئة (إقامة محميّات وغابات بدلاً من هذه الحرائق المتمادية عاماً بعد عام، وتأمين المياه العذبة للشفة وللري والاستعمال الصحي)، وتكوين فرق للتنقيب المبرمج عن الآثار الوطنية وابتناء قرى أثرية ـ سياحية، خصوصاً أن الأمم المتحدة صنّفت العديد من المناطق في لبنان على أساس أنها إرث عالمي، بذلك يمكن إبراز لبنان كمركز سياحي/ حضاري يُظهر رقيَّ شعبه كـ «جامع حضارات» تؤهله لمواصلة الاضطلاع بدوره الإنساني الفكري. فمن الخطأ إغفال مدى أهمية القوى الفكرية، لا سيما الشبابية الكامنة في لبنان ـ رغم نزيفه السكاني المتواصل ـ والقادرة على إعادة تطويره زراعياً وتصنيعياً، كما فعلت دول محيطية عديدة ـ كسورية وقطر والإمارات وإيران.. إلخ ـ لإدراكها أهمية هذين القطاعين الإنتاجيين في استقرار المجتمع واستقلال الدولة اللذين يعززان مفهوم المُواطنة.

فالأماني غير المبنيّة على إعطاء دور للمراكز الفكرية في نقل اللبناني من الهوية الأساسية المبنية على العائلة والدين الى الهوية الثانية الكبرى، المبنية على الجامعة والمجتمع والدولة، أقله من خلال تثقيف الجمهور وطنياً بـ«علوم الثقافة» (الإنسانيات كما سماها ماكس فيبر، من تاريخ وعلم اجتماع وأنثروبولوجيا وعلم نفس ونقد العلوم بعلم (إبستمولوجيا) ستسمح لنا فهم بناء الوطن من زاوية أخرى، العلم لا الوهم، زاوية بناء نظام سياسي ـ اقتصادي حديث، يتجاوز بتطوره الفكري الاجتماعي التبعيات المذهبية أو أنظمة التوافقات المرتبطة باتفاقات داخلية /اقليمية/دولية، منتجة للوهم السياسي على حساب الواقع المجتمعي، وللوهم الاجتماعي الذي يعرِّض استقرار لبنان الداخلي للاهتزاز أو الانهيار.

وما دام حوار المصالحات قد انفتح ولكن بلا مصارحات ولا مناصحات، فمن حقنا العلمي والمواطني أن نشدد هنا، مجدداً على أهمية المراكز البحثية وتحديثها لتحويلها الى مركزية علمية مشاركة في القرار الداخلي، وتحديداً في القرار السياسي الاقتصادي منه، لأن الغنى الاقتصادي عامل مؤثر في تعزيز الديمقراطية، إذ ما من أحدٍ يرغب في تقاسم الفقر، ولا يفضي إفقار المجتمع لغير تعميم الجهل، كما هو حاصل في مصر، مثلاً. فلماذا يجري إذاً هذا التفقير المتمادي والمتعمّد للمجتمع اللبناني؟ نلاحظ أن أكثر من نصف أبناء فقراء لبنان يذهبون، هذا العام، الى الجامعة اللبنانية، جامعة كل الأطياف اللبنانية التي لا تحظى مع ذلك بسياسة مالية وأكاديمية مناسبة لموقعها العلمي ولحجمها المجتمعي ودورها التربوي. فإذا كان خزّان إنتاج النخب الشبابية، العلمية والسياسية، الأول في البلد، يُعامل بهذه الطريقة، فكيف سيكون لبنان دولة قادرة على تحديث نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتحويله في مدى قريب الى نظام قابل للاستقرار والاستمرار والاستقلال في زمن البدائل والأزمات العالمية؟

فهل سيشهد لبنان يوماً جديداً تتحقق فيه أماني الآباء في أن يروا أبناءهم يجنون ثمار آلامهم؟ أما أن لبنان هذا الغارق في وهمه السياسي لن يخرج قريباً من وهمه الاجتماعي، تأكيداً ليأس الشاعر العربي المتجلّي في قوله: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم..؟ هناك صوت آخر جاءنا من الفيتنام، بلسان العم هوشي مينه الذي كان يخاطب شعبه بعد كل غارة أميركية: «لا تحزنوا! إن الحزن يحزن العدو». وهنا في لبنان كاد الحزن يغمرنا وبات من حقّنا التساؤل: «ألسنا بأعداء أنفسنا»؟ من الوهم أيضاً أن تمارس السياسية بأوهام، وأن يتحول المجتمع نفسه الى مفسدة، تُحارب المراكز الفكرية وتقوّض النسيج الاقتصادي للجماعات التكوينية بفصل الناس عن أرضهم، عن زراعتهم وصناعاتهم. ويبقى السؤال قائماً: من لا يفكّر ولا ينتج، كيف سيكون مؤثراً في حركة الأحداث، وكيف سيسهم من خلالها في بناء مستقبل الإنسان المؤمن بالطبيعة كوحدة وجودية مركزية، تعاود طرح إشكالية الوهم اللبناني، السياسي والاجتماعي، بشكل أكثر تفصيلاً على صعيد بناء الوطن؟ بلا وهمٍ، نختم: ما معنى لبنان إن لم يكن مركزاً إنسانياً للفكر والزراعة والصناعة، حيث الحياة تجدد الحياة؟

* كاتب لبناني