تركيا ليست مستعمرة.. الباب من هنا

TT

يتباهى السفير الإسرائيلي الجديد في تركيا غابي ليفي، بأنه من مواليد قضاء «برغاما» القريب من مدينة ازمير الجنوبية، وانه عاش مع اسرته حتى سن الرابعة في هذا المكان قبل المغادرة الى تل ابيب في الخمسينات، وان اسرته لم تقطع يوما ارتباطها بتركيا، وأن حلمه قد تحقق وعاد الى البلد الذي ولد فيه ليخدم سفيرا هذه المرة.

اختيار ليفي من قبل الإسرائيليين مسألة مدروسة بعناية فائقة، والغاية الاساسية هي تحسين صورة اسرائيل المهزوزة في الاوساط الشعبية والرسمية التركية، خصوصا خلال الاعوام الاخيرة بسبب سياساتها الاقليمية، وتحديدا في حربها المفتوحة على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وفعلا نجح الدبلوماسي الاسرائيلي الى ابعد الحدود في مهمته هذه، وذلك خلال اشهر فليلة من توليه هذا المنصب، فزار مكان ولادته امام عدسات الكاميرا معلنا ان نصفه الآخر هو تركي وقام بعشرات الزيارات واللقاءات التي عقدها مع كبار القيادات والمسؤولين في الاوساط السياسية والنقابية والاكاديمية والاعلامية، وانجز الكثير من الاتفاقيات والعقود وعروض التعاون المتبادل في اكثر من اتجاه سياسي واقتصادي واكاديمي.

لكن حادثة جامعة اسطنبول الأخيرة يبدو انها ستجبره على تعليق نشاطاته لبعض الوقت، ريثما يسترد انفاسه ويتجاوز هذا القطوع.

تقول المعلومات المتوافرة حتى الآن ان السفير الاسرائيلي اصطحب معاونه القنصل العام في اسطنبول موردخاي اميهاي، الذي لا يقل عنه نشاطا وحركة، وقصدا جامعة اسطنبول التاريخية للاجتماع برئيسها البرفيسور مسعود بارلاك في زيارة تعاون وتنسيق علمي واكاديمي، لكنه خلال الزيارة وقع ما لم يكن في الحسبان، ولنترك الكلام هنا لرئيس الجامعة يروي لنا ماحدث «طلبوا تحديد موعد لزيارتي فقبلت، حضروا في الموعد المتفق عليه بعد ظهر يوم الجمعة المنصرم، استقبلتهم امام باب مكتبي ودعوتهم للجلوس. لفت انتباهي وجود رجلين آخرين في المكتب توجها من دون استئذان الى غرفة الاستراحة الخلفية لتفتيشها، سألت عن هويتهما فقال القنصل، انهما من فريق الحماية والمرافقة. طلبت خروجهما من الغرفة على الفور، مذكرا الضيوف انهما في حرم جامعي، وانهما حسب التقاليد التركية في حمايتنا خلال وجودهم تحت سقف هذا الصرح، فأصرا على ابقاء الحرس في المكتب اثناء اللقاء. وقفت على الفور توجهت نحو الباب وأعلمتهم بانتهاء الزيارة، قبل ان تبدأ فأنا لا يمكنني الاستمرار تحت هذه الشروط.. اذا كنتم تصرون على التحرك ومقابلة الناس على هذا النحو، فالأفضل ان تظلوا في اماكنكم. تركيا ليست مستعمرة حتى يتصرفوا على هذا النحو، وودعتهم على مدخل الرئاسة وانتهى اللقاء».

مصادر الاسرائيليين قالت إن اسباب هذه التدابير أمنية بحتة، فالقنصل الاسرائيلي سبق وتعرض لحملات احتجاجات وانتقادات طلابية مماثلة، خلال محاولة فاشلة للاجتماع مع المسؤولين في الجامعة ذاتها في اذار المنصرم، وان السفير ومعاونه كانا قد تعرضا قبل ايام لتظاهرات احتجاج طلابية مماثلة كانت تنتظرهما خلال احدى الندوات، التي نظمتها «جامعة بهشه شهير» الخاصة في منتصف الاسبوع المنصرم حول الصراع العربي الاسرائيلي.

علمنا لاحقا أن هذه الزيارة ليست اولى كبوات الدبلوماسيين الاسرائيليين، وانها ليست المرة الاولى التي يتعامل بها السفير الاسرائيلي على هذا النحو مع الاتراك. فهو خلال اجتماعه الى احد رؤساء النقابات العمالية رفض قبول الضيافة وأخذ قطعة شوكولاتة من العلبة التي فتحت امامه، مفضلا ان يخرج قطعة حلوى صغيرة من جيبه، قائلا هذه هي شوكولاتتي الخاصة، فما كان من الضيف النقابي، الا ان بدأ بالتهام حبات الحلوى امامه ليظهر له انها غير سامة، وان ما فعله لا يليق بأي ضيف زائر بحسب التقاليد والاعراف التركية.

مسعود بارلاك الذي يجهز حقائبه لمغادرة منصبه خلال أسابيع، حيث تنتهي مدة رئاسته، وفشل في اقناع حزب العدالة والتنمية بقبول ترشيحه على لائحة الحزب في الانتخابات العامة الأخيرة، هو شخصية غير مرغوب فيها في صفوف الاسلاميين والليبراليين الاتراك، بسبب مواقفه الأخيرة من موضوع دخول الفتيات المحجبات الى باحة الحرم الجامعي، وكذلك بسبب ردود فعله العنيفة حيال تصريحات الكاتب التركي المعروف اورهان باموك الحائز جائزة نوبل من الموضوع الأرمني واحداث عام 1915 الشهيرة، ولناحية قراراته المتشددة حيال مطالب الطلاب وتحركاتهم وهذا ما دفع احد الاعلاميين لتذكيره انه رئيس لاحدى أهم جامعات تركيا، وليس قائدا لثكنة عسكرية، لكنه بعد هذه الحادثة ارتفعت اسهمه بشكل كبير في مختلف الاوساط، وهذا ما اظهرته ردود الفعل والتعليقات التي ظهرت الى العلن في اوساط الطلاب على مختلف اتجاهاتهم. ويكفي مثلا القاء نظرة على مئات الآراء والردود الواردة حول هذا الخبر على صفحات الانترنت التركية والعربية، التي تلتقي كلها عند مسحة الشعور بالانتصار لما انجزه رئيس جامعة اسطنبول، وتعليقات الحديث عن الوقوف في وجه الغطرسة والفوقية والتعالي والدروس الواجب تعلمها من هذه الحادثة، لنعرف أن وقفته هذه نالت اعجاب الكثيرين، وان كنا لا نعرف بعد ما ينتظره من مفاجآت على المستويات الرسمية، وكيف ستتعامل الشخصيات السياسية ووسائل الاعلام التركية مع الحادثة، ومدى تأثيرها على مسار العلاقات التركية ـ الاسرائيلية.

* كاتب وأكاديمي تركي