كلنا وراء الهند!

TT

عندما وقعت حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 المشئومة نشرت صحيفة «اللوموند» الفرنسية عنوان صفحتها الأولي «كلنا أمريكيون»؛ ومن بعدها قام حلف الأطلنطي بتفعيل المادة الخامسة منه والتي تضع جميع الدول الأعضاء في مواجهة عدو مشترك. لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ ذلك التاريخ، وتغير تاريخ العالم كما لم يتغير من قبل، وكان جزءا من هذا التغيير أنه جاء في اتجاهات سلبية متعددة وصل في النهاية إلى الاقتصاد العالمي كله الذي بات أشبه بسفينة تقترب من الغرق. ومن بين أسباب هذه النتيجة المأساوية كانت الطريقة التي أدارت بها إدارة جورج بوش السياسة العالمية حين صدقت أن العولمة ـ كعملية ـ والعالمية ـ كحالة ـ تعني سيطرة الولايات المتحدة على الدنيا بأسرها وإدارتها من واشنطن. ومن بين أسباب ذلك الأخرى أن بقية العالم صدقت ما قالت به واشنطن حتى ولو انتقدته كل يوم وسخرت منه، ولكنها كانت تأمل أن تقوم أمريكا بالمهمة الصعبة لإدارة عالم جديد نيابة عن العالم أو رغما عنه لا فرق. وفي الطريق ما بين هذه الأسباب وتلك، ضلت أقدام كثيرة في العالم، ما بين الذين ظنوا أن باستطاعتهم الاستفادة من المرحلة، ومن ظنوا أنهم يمكنهم أن يكونوا بمعزل عنها، ومن اعتقدوا أن المسألة برمتها مثل الأقدار المحتومة والقضاء النافذ ليس لهم فيها يد أو سياسة. وبينما كان في الولايات المتحدة أحلام إمبراطورية «للإمساك باللحظة»، كان هناك من بين أنصار الإسلام الراديكالي من اعتقد أنها اللحظة التي يمكن فيها تدمير الإمبراطورية العظمى الأولى بعد أن تم تدمير الإمبراطورية العظمى الثانية المعروفة باسم الاتحاد السوفيتي.

مثل ذلك في لحظات التغيير التاريخية والتحولات الكبرى من الأمور المتصورة، وهناك غنى هائل في تفاصيل متعددة سوف يهتم بها المؤرخون في مستقبل الأيام، ولكن العالم العربي والإسلامي وقع بين شقي الرحي: أمريكا المتمتعة بصلافة لا نهاية لها؛ والراديكاليون الإسلاميون الواثقون دوما من نصر نهائي. وكانت النتيجة بالنسبة للعالم خسارة كبرى تمت تغلفتها أحيانا بصراع الحضارات، أو تم توقيعها داخل النظرية الإمبريالية، أو وقعت أحيانا في اعتقاد ذاع كنتيجة لشيوع الاستبداد في الشرق العربي، ولكن الحصاد كان في كل الأحوال بائسا فانتشر الإرهاب في أوروبا وفي العالم العربي وفي آسيا ولم تسلم لا عاصمة ولا حضارة من لعنته وبصماته الجهنمية، وبينما الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي يخسران المعارك، كانت الدول العربية والإسلام يخسران هيبة وسمعة ومن ورائهما ضاعت القضية الفلسطينية بين أصابع الأصولية من ناحية وتغير أولويات الدنيا من ناحية أخرى.

وببساطة كان الثمن فادحا لكل الأطراف، لأن أمريكا فقدت العالم، ولأن العالم فقد أمريكا، وبين الاثنين كان العالم العربي حائرا بين موقف ضد الإرهاب لا شك فيه، وخوف أن يكون الإسلام والعروبة وليس الإرهاب هو المقصد والهدف من الدعاية والسلاح أو كلاهما معا. وبلا شك قيل لدينا كما قيل لدى الغرب أن الإسلام هو دين التسامح والسلام، ولكن الشكوك كانت قوية في كل الأوقات لأن اليمين الغربي لم يفقد مناسبة إلا وألقى باللائمة فيها على الدين الإسلامي، كما كان الغرب يرقب بحسرة كيف أن كل استطلاعات الرأي العام حتى بين الحلفاء العرب تراوحت ما بين الهتاف لبن لادن وصحبه، وبين اعتبار الإرهاب نوعا من «المقاومة» المشروعة.

هذه المرة ينفتح الستار عن فصل جديد جرى في الهند وليس في أمريكا، وفي مومباي وليس في لندن أو مدريد، وعلى خطوط التماس بين المسلمين والهندوس، وليس على التخوم بين المسيحية والإسلام. وقد انتهت القصة الدامية في مومباي؛ ولكن أرقام القتلى والجرحى كانت تتصاعد إلى بضعة مئات؛ وبدا المشهد معروفا لدماء نازفة، وحشرجات قتلى، وتحركات قوات خاصة، وانفجارات من أنواع شتى، ودخان في فنادق تاريخية تحكي عن لحظات مروعة كان فيها بشر من كل الأعمار والأديان والأعراق. وببساطة كان مشهد مجازر الإرهاب التاريخية في الأقصر والخبر وبالي يظهر مجددا في إعلان عن فتنة لا تقع بين الشرق والغرب، ولكنها تقع في صميم العلاقة بين الشرق والشرق؛ الشرق الإسلامي، وشرق كل الديانات الآسيوية الأخرى.

هنا في شبه القارة الهندية توجد جبهة جديدة يوجد فيها ما يكفيها من مآس تاريخية، وتقسيمات جغرافية، وقنابل نووية وصواريخ من كل نوع، وتختلط فيها أقلية مسلمة تتكون من 160 مليونا أو أكثر مع مليار من أغلبية تنتمي إلى عقائد أخرى، وعبر الحدود توجد باكستان، حيث الخطوط الفاصلة بين الديمقراطية والفاشية الدينية والديكتاتورية العسكرية لا تزيد عن شعرات لا يأتيها ضوء فجر يفرق بين أبيضها وأسودها. وهذه المرة فإن المأساة في الشرق بعد أن وصلت إلى حافتها الدموية في الغرب، ولم يعد هناك من مجال سوى الحكمة والحصافة واتخاذ القرارات السليمة التي تمس الجموع كما تفرض على النخبة.

هذه المرة فإننا كلنا هنود نقف صفا واحدا مع الدولة الهندية والشعب الهندي ضد الإرهاب، ولا يوجد هنا تحفظ بأسباب تاريخية أو أوجاع زمنية، أو انقسامات عرقية. وليس القضية أن الهند قد وقفت مع قضايانا، ولا أن الهند احترمت ديمقراطيتها وعلمانيتها حتى كانت رئاستها لمسلم قبل سنوات طويلة من وصول أول أمريكي من أصول أفريقية إلى البيت الأبيض، ولا أن الهند وشعبها من البلدان الصديقة، ولا أن منطقة الدول العربية على الخليج ممتلئة حتى الحافة بالمواطنين الهنود؛ ولكن، وفوق كل ذلك، فإن الإرهاب آفة تريدنا قبل أن تريد كل العالم، وتبغي تهديد استقرارنا قبل تهديد كل العالم. ومن لا يصدق فما عليه إلا أن يراجع أدب القاعدة والجماعات الأصولية المختلفة، ويطلع على ما هو منشور من حوارات بين أمراء «الجهاد» وجماعاته، ويرى إلى أي حد تملكت هؤلاء نزعات دموية للسيطرة والهيمنة التي لا تبقي مجالا لحرية، ولا مكانا للحياة.

وبصراحة آن الأوان لكي نتعلم من الدرس الماضي عندما لم ننجح في معالجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكيف أننا دخلنا في عمليات اعتذارية في الخارج بينما كان الأمر مغلفا بالتشفي في الداخل، بينما الحقيقة هي أننا وعواصمنا ومدننا وشبابنا كانوا دوما أول أهداف الإرهاب. وفي أيام واقعة سبتمبر المشئومة كتب زميلنا وصديقنا الدكتور مأمون فندي مقالا بعنوان «أسامة بن لكن» أشار فيها إلى تلك الحالة من التردد العربي إزاء أحداث نيويورك وواشنطن حتى ولو كانت تلك الأحداث تصعيدا طبيعيا لأحداث جرت في صعيد مصر، وفي الكعبة المكرمة، ولم تنج منها عاصمة عربية أو إسلامية خلال العقود القليلة الماضية. وخلال هذه المدة كان هناك دائما «ولكن» التي تتحفظ وتبرر وتقدم الأسباب؛ والغريب أنه حتي بعد «المراجعات» فإن الفكر الأصولي الراديكالي الدموي لم يأخذ أبدا بالجدية الكاملة.

ما تحتاجه الدول العربية الآن فرادى ومجتمعة ثلاثة أمور: أولا أن تعلن تأييدها للهند في هذه المحنة وتمد اليد لها بالمعلومات والتعاون في كل صوره وأشكاله، والأهم من ذلك أن تكون الإدانة واضحة بلا جمل اعتراضية، ولا تفسيرات فقهية، فالهنود يعرفون جيدا الدين الإسلامي، ولديهم من المسلمين ما يساوي نصف الأمة العربية، ولكن ما تحتاجه الهند هو الإدانة الأخلاقية والدينية غير المشروطة. وثانيا أن يكون هناك دور وجسر لحل النزاعات بين الهند وباكستان، فمحنة الإرهاب واحدة في كليهما، كما أن الانتصار عليه حماية للهند من الفتنة العظمي، وحماية لباكستان من الانهيار. وثالثا أن الدين الإسلامي قد تم اختطافه لفترة طويلة من قبل مغامرين وثوريين، وتحول إلى عباءات وأردية لأفكار ونزعات مدمرة وانتحارية، ولم يعد هناك من مهمة تقصر عن استعادة الدين لأهله كقوة للبناء وليس للهدم، وللوحدة وليس للفتنة، وللحوار وليس للصدام. تعالوا نحاول بجدية هذه المرة!