هل غادر الشّعراءُ..!

TT

اتفاقيات أو معاهدات كثيرات أبرمتها الحكومات العراقية مع الدول، والأكثر شهرةً وجدلاً تلك التي أبرمت في ظل العهد الملكي (1921 ـ 1958). أما ما أبرم في العهد الجمهوري، فلم يسمح بنقاشه أو معارضته بقصيدة أو تظاهرة، حتى جاءت الاتفاقية الحالية مع الولايات المتحدة الأمريكية فتظاهر المنددون والمؤيدون على حد سواء. فكل كتلة برلمانية سعت إلى إظهار جماهيرها مع أو ضد. لكن، قياساً أو مقابلة باتفاقيات العهد الملكي مع بريطانيا العظمى (1922، 1930) وما بعدهما 1948 كانت أصوات الشعراء أعلى من أصوات نواب البرلمان، حتى ظل عدد من القصائد يُردد على الأُلسن.

كان حضور الشعراء قوياً، ليس في أمر الاتفاقيات حسب، بل في كل مناحي الحياة السياسة العراقية. تجد الشاعر صوت الناس، حقاً أو باطلاً، تملأ القصائد صفحات جرائد المعارضة، حتى تجمع في تلك الحقبة من الشعر والأدب السياسيين، يُنبيك عن روح أدبية عالية، وحضور قوي للشاعر والشعر. كانت المخيلة خصبة والشعر ثرياً بأمتن القوافي وأجزل التضمينات من الأمثال والحكم! ولم يصنف الشعراء آنذاك على أساس المذهب أو الدين أو القومية، ولم يتهموا بشعوبية أو خيانة.

كانوا يتحدثون مع النواب الذين ستقع عليهم مهمة شرعنة تلك الاتفاقيات، يحثونهم على عدم التصديق، وبالمقابل هناك القصائد المؤيدة لهذه المعاهدة أو تلك. يأتي صوت الشاعر عبد الرحمن البناء(ت 1955) مناشداً نواب الشعب: «يا أيها النائب المندوب عن أمم.. القت إليه مقاليد التدابير.. أحذر مناقشة الشعب الحساب غداً.. من دون عذر وإشفاق وتوقير». أما القصيدة الفصل، والتي ظل في الذاكرة هي قصيدة معروف الرصافي(ت 1945)، التي جاء فيها: «علم ودستور ومجلس أمة.. كل عن المعنى الصحيح محرف.. أسماء ليس لنا سوى ألفاظها.. أما معانيها فليست تعرف». وأنشد محمد حبيب العبيدي(ت 1963) في الأمر نفسه: «نحن في معجم السياسة أحرار..، ولكنا قاصرين يتامى.. فإذا الشعب كان غير رشيد.. كيف يدعي لعقد عهد لزما». وقال محمد العبيدي يناشد بريطانيا صاحبة المصلحة في تحول الاحتلال إلى معاهدة انتداب: «خففي أيها الحليفة عنا.. من قيود أصبحن عاراً وذاما.. اثقلت كاهلاً وأدمت قلوباً.. وأذلت من النفوس كرما».

ومن شعراء النجف، وهي واحة الشعر والشعراء، نجد صالح الجعفري (كاشف الغطاء 1979) يصف لندن بما لا نصفها اليوم، في أمر المعاهدة الأولى معها: «كأن لندن مغناطيس مجلسنا.. فحيثما جذبته تلك ينجذب.. منها القرار ومنا أن ننفذه.. والأمر منها ومنا الطوع والأدب». أما أحمد الصافي النجفي(ت 1977) فيقول للنواب: «باسم هذا الشعب نالوا ثروة.. ثم باعوا الشعب لما أفلسوا.. كرماء لم يردوا طامعاً.. وأجابوا كل مَنْ يلتمس». ومع كل ذلك الانفعال ضد المعاهدات يظهر المهاجم لصالح ما تعاهدت به الحكومة، ويندد بالمعارضين: «وهيهات هيهات الكراسي ولمسها.. فمِنْ دوناها سد ومن دونكم سد» (عز الدين، الشعر العراقي الحديث والتيارات السياسية والاجتماعية).

أقول: أين الشعراء؟! ليس لغرض معارضة أو موافقة بقدر ما يُسأل السؤال لضياع المرحلة أدبها وشعرها، ولا أراها خالية، إلى هذا الحد، من الشعراء أو الخطباء، لكنها خلت من الشعر ومن الخطابة! أهو غياب حافز ومنهل الشعر ضد أو مع الاتفاقية، أم هو تعود الشعراء أن لا يدفعوا منجرهم الأدبي إلى السياسة لحذر تجذر في النفوس وغلب حتى على شياطين الشعر. وحتى شعراء العامية، الذين ملأوا المشهد عند السقوط وأثناء المقاتل الطائفية والموت المتربص سكتوا إزاء القضية، ولم يظهروا بيتاً مؤيداً أو معارضاً، مع أن الأمر لا يقل خطورة عن سواه من أمور السياسة اليومية!

لا أحث على الرفض أو الموافقة على الاتفاقية فجلسات البرلمان أكدت بمجملها أن القوم «لاؤهم نعم» أو بالعكس. فهم بين خيارات، لكل منها تبعاته: إما الاتفاقية وإما الانسحاب وإما البقاء. إلا أنه أول مرة يغيب عن السياسة العراقية مصطلح العمالة أو الخيانة، مثلما كان عالياً في شأن المعاهدات السابقة، وأكثر ما كان يأتي على ألسنة المعارضة التي لا ترحم، لينظمها الشعراء فتذاع بسرعة البرق. هذا ما لُمس من مداخلات نواب البرلمان، كل نائب يستفتح مداخلته بالقول: الرافض والموافق وطنيان! استوضح بما استوضحه عنتر بن شداد: «هَلْ غَادَرَ الشّعَراءُ مِنْ مُتَردَّمٍِ.. أم هل عَرفْتَ الدَارَ بعدَ تَوَهَمِ«؟! وعندها أراد المعنى: «لم يترك الشعراء شيئاً يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغوه»(المعلقات، شرح الزوزني)! أقول: هل المعاهدة مع دولة كبرى وبعد احتلال لا يصاغ له الشعر! أم أنه حكم المرحلة أن ينسحب الأدب إلى هامش الحياة!

[email protected]