أهذا ما يُريده أصحاب نظرية: «المسافة الواحدة»؟!

TT

وكأنها استجابة لاختيار محمود عباس (أبو مازن) من قبل المجلس المركزي في اجتماعه الأخير رئيساً للدولة الفلسطينية وكأنه ردٌّ مقصود على أصحاب نظرية «الوقوف على مسافة واحدة» التي طُرحت في اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد قبل أيامٍ في القاهرة، فقد جاءت مبادرة الحكومة اللبنانية للاعتراف بهذه «الدولة» وتحويل مكتب منظمة التحرير في بيروت الى سفارة لها بمثابة خطوة هامة في الوقت المناسب وفي اللحظة التي يحتاج فيها العمل الوطني الفلسطيني الى مثل هذه الخطوة.

قبل أن تتخذ الحكومة اللبنانية هذه الخطوة ذهب أحد وزراء الخارجية العرب الى اجتماع القاهرة الأخير بنظرية «الوقوف من الفصائل المتصارعة على مسافة واحدة» والهدف هو سحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير استجابة لخطة حركة «حماس» التي بقيت، ومنذ انطلاقتها التي جاءت متأخرة عن ركب الثورة المعاصرة أكثر من عشرين عاماً، تسعى سعياً حثيثاً لتحقيق هذا الهدف الذي يعني تحقيقه بعثرة الحالة الفلسطينية والعودة بها الى ما قبل ستينات القرن الماضي عندما كان الفلسطيني يخجل من نفسه ويخاف من إشهار هويته الوطنية الأصلية على الحدود ومنافذ العبور العربية والأجنبية.

الآن وقد وصلت الحالة الفلسطينية الى هذا المنعطف التاريخي وجد الذين بقوا يسعون سعياً حثيثاً لاستخدام هذه القضية كورقة ضاغطة لحساب حلولهم ومصالحهم الخاصة ان الفرصة غدت سانحة للتخلص من منظمة التحرير ومن حكاية الممثل الشرعي والوحيد فبروز حركة «حماس» بكل هذه الضجة الجهادية وفر لهم الغطاء الذي بقوا ينتظرونه والذي لم توفره تنظيمات الانشقاقات والشروخ التي أحدثوها في حركات العمل الوطني الفلسطيني ليطرحوا نظرية «الوقوف على مسافة واحدة» وليحققوا ما لم يستطيعوا تحقيقه على مدى كل هذا التاريخ الطويل.

ولذلك ولأنه بات واضحاً ومعروفاً أن هناك إصرار على التخلص من منظمة التحرير منذ انقلاب حركة «حماس» في يونيو (حزيران) العام الماضي على السلطة الوطنية فقد كان هذا الموقف الذي اتخذه وزراء الخارجية العرب، باستثناء تلك الاستثناءات المعروفة، برفض نظرية: «الوقوف على مسافة واحدة» التي تنطبق عليها الحكمة القائلة :« كلام حق يراد به باطل» وتجديد الدعم للرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الذي كان اختاره المجلس المركزي رئيساً للدولة الفلسطينية بالإضافة الى رئاسته للمنظمة وللسلطة الوطنية.

إنه لم يكن ممكناً أن ينساق العرب كلهم وراء نظرية «الوقوف على مسافة واحدة» التي تصح فيها مقولة «وضع السُّم في الدسم» فالدول العربية هي التي أنشأت منظمة التحرير وهي التي أعطتها صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهي التي تعاملت معها وبخاصة بعد إعلان الاستقلال في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1988 على أنها الدولة الفلسطينية «المعنوية» وعلى أن مكاتب هذه المنظمة هي السفارات المعتمدة المعترف بها وعلى غرار سفارات الدول الشقيقة والصديقة.. فكيف إذاً بالإمكان وضعها على قدم المساواة مع تنظيم حزبي يعتبر ناشئاً نسبياً هو حركة « حماس»؟!

قبل القمة العربية التي انعقدت في الرباط عام 1974 والتي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني كانت هناك قمة الجزائر، وقد تمثلت سوريا في هذه القمة بوفد برئاسة عبد الحليم خدام، وتمثل الأردن بوفد برئاسة رئيس الوزراء الأسبق بهجت التلهوني، ولعل ما هو غير معروف للكثيرين أنه كان لهذين الوفدين في تلك القمة موقف متطابق من حيث الشكل، مختلف من حيث المضمون، فالأردن في تلك الفترة التي أعقبت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 كان يرى أنه لا بد من استعادة الضفة الغربية أولاً ثم بعد ذلك يكون لكل حادث حديث، بينما كانت سوريا تصر على أن قضية فلسطين هي قضية العرب كلهم وأنه غير جائز أن يحصر تمثيلها بالمنظمة وحدها وخصوصاً أن المفاوضات مع الإسرائيليين غدت على الأبواب.

كان في ذلك الوقت رئيس الجزائر هو الرئيس الراحل هواري بومدين، وكان قبل جلسة قصر المؤتمرات الحاسمة قد التقى الوفد الفلسطيني واتفق معه على عدم السماح بالكلام لا لوزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام ولا لرئيس الوزراء الأردني بهجت التلهوني، وهكذا كان، حيث أنه ما أن انعقدت الجلسة حتى قال، رحمه الله، مخاطباً المؤتمرين: «لقد اتفق العرب على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين.. فهل هناك معترض؟».. وبالطبع فإن الأردنيين والسوريين فهموا أن الطبخة مطبوخة سلفاً فالتزموا الصمت.. وهكذا كان حيث انتقل هذا القرار الى قمة الرباط التي انعقدت بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر.

لم يكن الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني أولاً في قمة الجزائر ثم في قمة الرباط هدفه النضال والجهاد ومواصلة حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، بل الانخراط في المفاوضات اللاحقة التي كانت حرب أكتوبر (تشرين الأول) البوابة العريضة للدخول فيها. والحقيقة أن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات بمساندة ودعم دول عربية أخرى هو الذي كان وراء هذا القرار وكان هدفه حيث كان قد قرر التفاوض مع الإسرائيليين ألا يظهر وكأنه قد تخلى عن الفلسطينيين والقضية الفلسطينية وذلك في حين أن هدف بعض العرب كان إبعاد الأردن أولاً وسوريا ثانياً عن هذه القضية.

وحقيقة، وهذه أمور غدت جزءاً من التاريخ الذي بات بعيداً، أن الأردن، الذي ضمَّن مقررات مؤتمر أريحا المتعلقة بوحدة الضفتين نصاً يؤكد على أن الضفة الغربية وديعة لديه سيعيدها الى أصحابها متى أرادوا ذلك، كان يرى أنه من الأفضل أن يفاوض لاستعادة هذه الضفة باعتبارها كانت قبل احتلال يونيو (حزيران) عام 1967 جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية ثم بعد ذلك يجري استفتاء شعبها ليقرر خياراته وما إذا كان سيختار الالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية أم يحافظ على الوضعية السابقة.

في كل الأحوال لقد كانت هذه هي وجهة نظر الأردن التي لم يأخذ بها العرب ولم تأخذ بها منظمة التحرير والتي تخلى عنها في قمة الرباط هذه المشار إليها والتزم بالموقف الذي أجمعت عليه الدول العربية، وهو لا يزال ملتزماً بهذا الموقف، بل ازداد إصراراً عليه وعلى ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة على كل الأراضي التي احتلت في عام 1967 وفي مقدمتها القدس الشرقية التي يجب أن تكون عاصمة لهذه الدولة التي بدون قيامها فإنه لا توجد أي إمكانية لحل عادلٍ ومقبول ترضى عنه الأجيال المقبلة.

ولهذا فإن موقف الأردن في اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير كان ضد نظرية «الوقوف على مسافة واحدة» وكان، الى جانب المملكة العربية السعودية ومصر، قد أصرَّ على أنه لا يجوز التعامل مع تنظيم حزبي على قدم المساواة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي يعترف العرب بها وبرئيسها كدولة مستقلة لها سفارات في كل عواصم دولهم ولها سفارات في معظم دول العالم.

لم يستطع صائب عريقات، الذي حضر هذا الاجتماع وشارك فيه كممثل للرئيس محمود عباس (أبو مازن)، أن يضبط أعصابه إزاء ما سمعه من بعض وزراء الخارجية العرب الذين إن هم لم يتبنوا بصراحة نظرية «المسافة الواحدة» فإنهم أيدوها بطريقة مواربة وهو قد انفجر قائلاً :«إنكم إن أردتم إحضار حركة «حماس» الى هذا الملتقى فعليكم ألا تنسوا عبد الحليم خدام ولا جماعة (الحوثي) ولا المتمردين في دارفور.. فهؤلاء يقولون أيضاً إنهم موجودون وإنهم مخولون من قبل شعوبهم للتحدث باسم هذه الشعوب»!

إن هناك لعبة خطيرة بالفعل وهي تلتقي، وإن بدون تنسيق ولا تآمر ولا مؤامرات، مع توجهات اليمين الإسرائيلي الذي قد يعود الى السلطة في انتخابات فبراير (شباط) المقبل، فتجاوز منظمة التحرير والقفز من فوقها، وبالتالي تدميرها وذبحها وإن بسكين جهادي، سيعزز ويدعم ادعاءات الأحزاب الإسرائيلية اليمينية القائلة بعدم وجود الطرف الفلسطيني الذي من الممكن مفاوضته وإبرام اتفاق سلام معه.. فهل إن هذا هو الذي يريده أصحاب نظرية «الوقوف على مسافة واحدة» ؟!