اليمن والصراع الدولي على القرن الأفريقي

TT

حاول اليمن جاهدا مد يد العون لحل الأزمة الصومالية إلا أن مصالح الكبار تم تجميدها فغرق الصومال في الفوضى، فقد أدى فشل الولايات المتحدة الأمريكية في بداية التسعينيات وخروجها المهين إلى نتائج وخيمة انتهى بازدهار الأصولية المتطرفة ونمو قرصنة مهددة لمصالح العالم، ورغم المحاولات الإقليمية الجادة لإخراج الصومال من صراعاته إلا أن تناقض مصالح الدول الإقليمية وارتباطاتها بالدول الفاعلة في المنظومة الدولية زاد من استفحال الأزمة، وتبدو الأزمة الصومالية في وضعها الراهن غير قابلة للحل، لأن الدول تلجأ لمعالجة أعراض المرض (القرصنة) لا المرض ذاته، ولأن أجندة الأطراف الدولية والإقليمية متناقضة.

يرى بعض المراقبين أن محاولات اليمن الجادة لإعادة بناء الدولة الصومالية أوقعها في براثن اللعبة الدولية وكان احتلال اريتريا للجزر اليمنية رسالة قوية لتدخلها في ترتيب الوضع الصومالي، وهذا جعلها أكثر حذرا في التعامل مع الوضع رغم أنها من أكثر الدول تضررا من الفوضى في الصومال، فكلما توسع الصراع الداخلي بين القوى المحلية المتناقضة على مستوى الفكر والمصالح كلما زاد عدد اللاجئين القادمين إلى اليمن عبر البحر، واتسعت دائرة الفوضى وهي المدخل الأساسي لقوى الجريمة والإرهاب، وهذا بطبيعة الحال لا يؤثر على أمن اليمن الوطني فحسب بل أصبح يهدد الأمن القومي العربي وأصبح مدخلا للقوى الدولية لفرض إرادتها على المنطقة وبالشرعية الدولية.

من جانب آخر يؤكد أغلب المراقبين أن فهم التطورات الراهنة بعد بروز مشكلة القراصنة وتهديدها للممرات المائية لا يمكن فهمها إلا من خلال استيعاب طبيعة الصراع الدولي على أفريقيا، ففي ظل صراع عالمي بين الدول الفاعلة في المنظومة الدولية، دفع الولايات المتحدة الأمريكية للتحرك بقوة في المجال الأفريقي، وتؤكد بعض الدراسات أن تلك التحركات تنبئ عن مشروع أمريكي للهيمنة على أفريقيا.

فالولايات المتحدة الأمريكية بعد أن فرضت وجودها في الشرق الأوسط ووسط آسيا تريد أن تكمل استراتيجيتها العالمية وتدعيم قوتها في أفريقيا، والملاحظ أن سعيها الحثيث لفرض وجودها في أفريقيا يتحرك بحذر وتفهم للمصالح الأوروبية خصوصا البريطانية والفرنسية، وهي على يقين أن التوجهات البريطانية التي تعمل وفق مسارات مؤيدة للمظلة الأمريكية كفيل بكبح سياسات الاتحاد الأوروبي من مواجهة الولايات المتحدة، وما يثير المخاوف الأوروبية والأمريكية هو التواجد الصيني في أفريقيا ودخول إيران كلاعب في القرن الأفريقي.

ومن الواضح أن بناء المصالح الأمريكية في القارة السوداء يتبع آليات أكثر مرونة مقارنة بما يحدث في الشرق الأوسط، والتواجد الأمريكي في أفريقيا له أهمية استراتيجية في تدعيم القوة الأمريكية في صراع الكبار وسوف يمكنها من الحصول على النفط ومحاصرة الإرهاب ومنافسيها الدوليين، ومن جهة أخرى يقلل من اعتمادها على نفط الخليج وهذا ربما يجعلها أكثر قدرة على فرض إرادتها على الدول المارقة كإيران، والحراك الأمريكي الراهن يؤكد أن القرن الأفريقي هو البوابة الرئيسية لتدعيم الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا وفي العالم، والجدير بالذكر ان وجود رئيس أمريكي من أصول أفريقية ربما يسهل لأمريكا تحقيق طموحاتها في أفريقيا.

على ما يبدو أن سلوك السياسة الخارجية اليمنية يدرك خطط اللاعبين الكبار، وتخوف اليمن الراهن ربما مؤسس على نتائج الهيمنة الأمريكية على القرن الأفريقي لأن السيطرة الأمريكية لن تتم ما لم يكن اليمن في القائمة بما يعني فرض ترتيبات أمنية على اليمن ستكون نتائجها سلبية على مصالح اليمن وعلى الأمن العربي ناهيك عن الاعتراضات الداخلية التي ستؤثر سلبيا على صانع القرار.

كانت التحركات اليمنية استباقية قبل بروز القرصنة فقد بذلت جهود ملموسة في البحث عن شريك صومالي قادر على فرض الأمن وإعادة بناء الدولة، لتخفيف نتائج استفحال الأزمة الصومالية، وقد وجد العرب بعد صعود نجم المحاكم الصومالية كقوة واقعية وفاعلة طريقا لتحقيق الحد الأدنى من الحلول، إلا أن العقدة الأمريكية من التطرف الإسلامي وبروز أجنحة متطرفة في المحاكم والخوف من تكرار تجربة طالبان إلى وأد المشروع بالتدخل الإثيوبي ودعمت الولايات المتحدة مستغلة تخوفات وقلق إثيوبيا وكينيا الرئيس عبد الله يوسف وتم دعم التوجهات الانفصالية لإقليم بونت لاند وهو الإقليم القريب من باب المندب ومن أنتج فعل القرصنة.

التواجد العسكري المكثف بعد قرار مجلس الأمن الدولي الذي يمنح الدول حق حماية مصالحها التجارية واستخدام القوة في مواجهة أعمال القرصنة، ومنحها حق الدخول في المياه الإقليمية الصومالية لمتابعة القراصنة ولحماية وصول المساعدات الدولية، كما يرى البعض هي البداية لفرض السيطرة الأمريكية والأوروبية على الممرات الدولية، وهذا يفسر حالة الارتباك والقلق الذي أصاب الدول المطلة على البحر الأحمر.

وما يزيد من تخوف اليمن من التواجد الأجنبي مشاكله الداخلية التي يمكن أن تتحول إلى مدخل لإجبار صانع القرار على قبول سياسات تتناقض مع مصالحه الوطنية فقد تدفع الولايات المتحدة مثلا المشكلة الجنوبية باتجاهات خطيرة ربما يهدد وضع النخبة الحاكمة ويضع أمن اليمن القومي في سلة من المخاطر التي تهدد وحدته وتجربته السياسية.

وهذا ربما يفسر رفض اليمن بالمطلق فكرة تدويل أزمة القراصنة والتواجد الدائم للقوات الدولية، فقد يجبره ذلك على قبول تواجد عسكري على جزره، كما أن التنقيب على البترول في سواحله يجعل من خياراتها مرتهنة للمصالح الأمريكية، الهواجس اليمنية دفعت اليمن للتحرك عربيا كمحاولة منه لمقاومة نتائج القرار الدولي ونتائجه وعلى ما يبدو أنها لم تجد الاستجابة لطموحاته، فلم يتخذ العرب حتى اللحظة قرارات حاسمة، ولم يتبنوا استراتيجية عربية واضحة وقوية لحماية أمن خليج عدن والبحر الأحمر، ولم تجد الدبلوماسية اليمنية لتعبر عن إحباطها إلا بالحديث عن مخططات لتدويل البحر الأحمر، حيث صرح وزير الخارجية عن «مخاطر الوجود العسكري المكثف والمتعدد الجنسيات في جنوب البحر الأحمر على الأمن القومي العربي، وما يمثله ذلك التواجد من مقدّمة لتمرير مشروع تدويل مياه البحر الأحمر، الذي سبق أن اقترحته إسرائيل وقـوبل برفض عربي».

يسعى اليمن من أجل بناء نظام أمن جماعي عربي لحماية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، ويرى أن موقعه يؤهله لان يكون هو المركز الإقليمي لأية جهود لمحاربة القرصنة، ولديه طموحات ببناء قوة بحرية يمنية بمساعدة العرب والمنظومة الدولية.

الملاحظ أن التخوفات اليمنية هدأت مع قدوم قوات عسكرية لدول الخليج العربي وأصبح خطابها أكثر واقعية وتحدث الرئيس صالح عن تأييده لبناء قوة دولية بالتعاون مع الدول المطلة على البحر الأحمر والخليج العربي لحفظ أمن الممرات المائية.

ويمكن القول إن الخيار العربي الأكثر جدوى هو أن يكون لهم دور أساسي في حماية الممرات المائية في خليج عدن والبحر الأحمر بالتعاون مع الدول المحورية في المنظومة الدولية وفق القوانين الدولية المنظمة وبما يحفظ سيادة الدول العربية ومصالحها، وقد برزت هذه الملامح في تصريحات المسؤولين العرب وفي اجتماع القاهرة التشاوري حيث ركزت قرارات مجلس السلم والأمن العربي على تشكيل فريق لإعداد اتفاقية عربية لمواجهة القرصنة بما يدعم التعاون الأمني للعرب، وأكد المجلس رفض المحاولات الدولية لتدويل أزمة القراصنة حماية لمصالح الصومال وللأمن العربي، ولم ينس العرب أن يؤكدوا أن توفير امن البحر الأحمر وخليج عدن مسؤولية الدولة العربية المطلة على البحر العربي. وتوصل العرب في تشاورهم أن سبب أزمة القرصنة هو الحرب الأهلية وغياب مؤسسات الدولة، ولم ينس المجلس أن يُذكر باحترام السيادة الصومالية ووحدته واستقلال وسلامة أراضيه. والخلاصة وأيا كانت التفسيرات المطروحة لتفسير أسباب القرصنة ومن ورائها ونتائجها، ومهما كانت أهداف الدول المؤثرة في المنظومة الدولية، إلا أنه يمكن القول إن أهم الاستراتيجيات المفترض تبنيها لمعالجة المشكلة من جذورها هو إعادة بناء الدولة الصومالية، فالتهديدات التي يتخوف منها العرب في هذه المسألة نابعة من انعدام الدولة، فالجهود العربية بالتعاون مع المنظومة الدولية لابد ان تركز أولا على إعادة بناء الدولة الصومالية.

ومن المفترض أن تلعب الدول العربية دورا فاعلا في حل المشكلة الصومالية وتجاوز الصراعات الداخلية وتحقيق مصالحة وطنية بين الاطراف الصومالية بما يضمن مصالح الجميع على أسس جديدة تؤسس لدولة قائمة على دستور حديث يضمن بناء دولة معاصرة متوائمة مع واقع الصوماليين.

وبناء الدولة هو المدخل لتحقيق أمن الممرات المائية فخلال تاريخ الدولة الصومالية الحديثة قبل سقوطها لم تسجل أية عملية قرصنة، كما أن بناء الدولة مدخل لتعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة الإرهاب والقرصنة، وبناء الدولة هو من سيخفف من المخاوف الأمريكية من تحول الصومال إلى مصدر لتصدير الإرهاب.

وفي مرحلة السعي لبناء الدولة الصومالية على دول الإقليم أن تكون أكثر واقعية في بناء الأمن البحري وتتفهم مصالح الآخرين وأن تسعى لبناء توافق وتعاون مع الدول المؤثرة في المنظومة الدولية، والجميع يدرك أن القرار 1838 الذي أصدره مجلس الأمن بموجب الفصل السابع ليس إلا سياسة طارئة لمعالجة تفاقم مشكلة القرصنة وتزايد مخاطرها، ولكنه ليس علاجا للمشكلة، لذا فإن الأمر بحاجة إلى شجاعة وتضحيات بما يحقق مصالح الجميع.

* كاتب يمني