التغيير الذي نؤمن به

TT

جاء الاعتدال غير المفاجئ الذي أبداه الرئيس المنتخب باراك أوباما بمثابة مفاجأة للكثيرين. وبهذا، يبدو أوباما عاقداً العزم على استعادة الصورة التي كانت عليها الأوضاع خلال فترة رئاسة كلينتون القديمة ـ مع اختياره هيلاري كلينتون لإدارة السياسات الخارجية، والطاقم المعاون لروبرت روبين لإدارة الشؤون الاقتصادية، وبيل ريتشاردسون لتولي منصب وزير التجارة. ومن الواضح أن أوباما الذي خاض الانتخابات الرئاسية رافعاً شعار «التغيير» عاقد العزم على إثبات صحة القول الفرنسي المأثور بأنه كلما تغيرت الأمور، بقيت كما هي. أما المثير للدهشة فهو أن أي من هذه الإجراءات لا ينبغي النظر إليه باعتباره مفاجأة، فعلى امتداد حملة الانتخابات التمهيدية تركزت نقطة الاختلاف الرئيسة بين أوباما وهيلاري كلينتون في قضية العراق. وهذه القضية هي التي مكنته من الفوز داخل ولاية أيوا، وهي التي بثت القدر الأكبر من الحماس في نفوس أنصاره، حيث بدت الصورة وكأن أحد المرشحين يؤيد السلام، بينما يناصر الآخر الحرب. بيد أن الأمر مختلف على أرض الواقع، ذلك أنه كان هناك دوماً فجوة صورة أوباما وحقيقته. ولدي شعور بأنه لم يكن هناك اختلاف كبير بين مواقفه وتلك الخاصة بهيلاري حيال أي قضية ـ بما في ذلك العراق. وقد اعترف أوباما نفسه بهذه الحقيقة قبل بداية السباق الرئاسي، حيث صرح لمحرر «نيويوركر»، ديفيد ريمنيك، عام 2006 بأنه: «أُقدر هيلاري للغاية. وكلما زادت معرفتي بها، ازداد إعجابي بها». وخلال المقابلة ذاتها، قلص أوباما من الفجوة بين موقفه وموقف هيلاري كلينتون من الحرب في العراق، وقال: «كنت أخوض الانتخابات للانضمام لمجلس الشيوخ الأميركي، وكان عليها الإدلاء بصوتها. ودائماً ما التصويت اختبارا صعبا». وبصيغة أخرى، من يعرف؟

ولا يعني ذلك أنني ألمح إلى أن أوباما رأى أن الحرب في العراق أمراً جيداً، وإنما أنه يعترف بأن القضية ليست هينة، وأنه لو لم يكن يمثل ضاحية في شيكاغو يهيمن عليها الحمائم داخل مجلس شيوخ إلينوى، ربما كان سيبدي نمطا مختلفا من المعارضة. ويذكر أنه لم يصوت أي من المنافسين للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة ضد قرار شن حرب العراق. والآن، نجد أن اثنين منهم على وشك الاضطلاع بدور بارز في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية لأوباما ـ وهما جو بايدن، نائب الرئيس المنتخب، وكلينتون، التي من المفترض أن تتولى منصب وزير الخارجية. وعلى الصعيد الاقتصادي، يبدو الوضع وكأن أوباما يشكل إدارة كلينتون الثالثة، حيث اختار لورانس سمرز للاهتمام بالاقتصاد الكلي، بينما سيُعنى تيموثي غيتنر بالاقتصاد الجزئي، ومن المنتظر أن يتعاون الاثنان مع بوب روبين. إذاً، كيف يمكننا تفسير الفترة الطويلة التي استغرقها التنافس خلال الانتخابات التمهيدية على الرئاسة بين المرشحين الديمقراطيين والحدة التي اتسم بها؟ من أجل التوصل إلى الإجابة، علينا العودة إلى سيغموند فرويد وعبارته الشهيرة: «نرجسية الاختلافات الطفيفة»، والتي عنى بها الكراهية التي نشعر بها حيال الأشخاص الذين يشبهوننا. وللمشاهد الخارجي، يفسر هذا المصطلح العداء القائم منذ أمد بعيد بين البروتستانت والكاثوليك وميل الشيعة والسنة لقتل بعضهم البعض. كما يفسر ذلك أيضاً البغض الشديد الذي أبداه الفريقان المؤيدان لكل من أوباما وهيلاري إزاء بعضهما البعض. في الواقع، باستثناء المرشحين نفسيهما، لم يكن بين الفريقين سوى قدر ضئيل للغاية من الاختلافات. ولذلك، شعر الكثير من مؤيدي أوباما بالاحتقار إزاء أنصار هيلاري ـ والعكس صحيح. هل تتذكرون عندما كذبت كلينتون بشأن كل الأمور وبات من المستحيل الثقة فيها؟ هل تذكرون عندما تعرضت لانتقادات بالغة لاتهامها أوباما بأنه يعتنق الإسلام سراً؟ وهل تذكرون عندما تعرض زوجها لاتهامات بالعنصرية؟ لقد كان ذلك محض افتراء وتشويه للسمعة، ومع ذلك تم تصديقه.

ومثلما الحال مع قصص الحب الملتهبة، يمكننا الآن النظر إلى الوراء لفترة الحملات الانتخابية والتعجب: لماذا كان كل ذلك؟ عادة ما يشارك المرشحون أنفسهم في المشاعر التي تهيمن على الحملات الانتخابية، وكذلك أعضاء فريق العمل المعاون لهم، حيث يعيشون في ما يشبه الفقاعة التي تبنيها الشائعات والظنون. لكن الحال اختلف مع أوباما، الذي بدا دوماً حريصاً على إبعاد نفسه عن الحرارة التي اتسمت بها فترة الحملة الانتخابية والنظر إليها بازدراء.

في الواقع، إن الفريق القائم على حملة انتخابية يعمل بمثابة حكومة تبحث عن مكان لها. وقد قدمت حملة أوباما لنا مرشحاً يتميز بقدر هائل من الهدوء. لقد ظل أوباما دوماً منفصلاً عن المشاعر القوية المرتبطة بالحملة الانتخابية، وهو أمر أفاده كثيراً. وبات من الواضح الآن أنه لن يمارس الحكم من اليسار، ولا حتى الوسط، وإنما من فوق الجميع.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»